|
|
المسيح يُعلِّم الخدَّام والمخدومين: الأرض الجيدة
”يُثير التساؤل أن كثيرين مِمَّن ينتظمون في الكنائس يستمعون لكلمة الله، ولكن الكلمات تَعبُر عليهم دون أن يتأثـَّروا فيتغيَّروا. كيف نستجيب، إذن، للكلمة، فنتغيَّر إلى الأفضل، ونستمر في النمو، ونأتي بالثمر المتكاثر“! في أول أمثاله الطويلة، تناول الرب هذا الأمر وقدَّم مَثَل الزارع()، والذي استخدم فيه ببراعة عناصر البيئة المحيطة؛ مبيِّناً أن الزارع وهو ينثر البذار على الأرض، صادفت البذار أنواعاً من التربة لم تُثمر فيها، ربما نمت قليلاً ثم ذبلت واختنقت، ولكنها لما سقطت على الأرض الجيدة أعطت ثمراً. ومن محبة الله أنه كمعلِّم أخذ يشرح لتلاميذه، ولنا من بعدهم، معنى المثل مبيِّناً أن البذار (أو الزرع) هي كلمة الله، التي يُلقيها الزارع وهو الرب نفسه (الكلمة اللوجوس) أو خادم الكلمة الذي يتكلَّم فيه الرب بالروح، وأن الأرض هي قلب المتلقِّي. أربعة أنماط: أورد الرب، بالمقابلة مع أنواع التربة التي سقطت عليها البذار، أربعة أنماط من السامعين: ثلاثة يمثـِّلون صوراً من إيمان شكلي ضعيف خاضع لظروف الزمان، فأخفقوا في قبول الكلمة؛ والنمط الرابع، أصحاب الأرض الجيدة، وهم مَنْ قبلوا الكلمة بفرح، فأعطت ثمراً. النمط الأول: يُقابله حالة البذار التي سقطت على الطريق فداستها الأقدام أو أكلتها طيور السماء. وفسَّر الرب ما قاله أن الشرير يأتي ويخطف ما زُرع في القلب. وواضح أن أصحاب هذا النمط لم يبدأوا بعد حياة مـع الله، فلا تربـة هناك للنمو، والفكر نَهْبٌ لكـل التيارات وألوان التسلية السطحية والأحاديث الفارغة. وإبليس من جانبه لا يسمح بأية بداية. إنه أولاً بأول ينزع البذار من هذا القلب المستباح دون سياج أو حراسة. من هنا فالكلمة تَعبُر دون أن تستقر، والأفكار والاهتمامات الجسدية تستبعدها دون أن تترك أثراً. النمط الثاني: ويُقابله حالة البذار التي سقطت على الأماكن المحجرة، فلم تكن هناك تربة كثيرة. وفي غياب العمق والجذور تمَّ النبت سريعاً، ولكن ما إن أشرقت عليه الشمس حتى احترق وجفَّ، وبحسب تفسير الرب فإن هؤلاء هم العاطفيون السطحيون الذين يقبلون الكلمة حالاً بفرح ويؤمنون إلى حين، مختبرين عزاءً مؤقتاً. ولكن إذ ليس لهم عمق إيمان أو اختبار حقيقي، فإنهم ينهارون تحت وطأة التجربة والاضطهاد والضيق والمسئوليات والمشاغل اليومية ومرارة الحياة، فيَعثرون ويرتدُّون، حتى يُكرِّرون القصة من جديد، مَثَلهم في ذلك مَثَل كثيرين قبلهم سمعوا المسيح على الأرض وفرحوا بالكلام ثم نسوه دون أن يخلصوا: «لأنه إن كان أحدٌ سامعاً للكلمة وليس عاملاً، فذاك يُشبه رجلاً ناظراً وجه خِلْقته في مرآة، فإنه نظر ذاته ومضى، وللوقت نَسِيَ ما هو.» (يع 1: 23و24) النمط الثالث: يُمثـِّله حالة أرضٍ يُغطيها الشوك. فالبذار تنبت ومعها الشوك يخنقها، وهم أولئك الذين يقبلون الكلمة، ولكن هموم هذا العالم بأنواعها وغرور الغِنَى وشهوات الحياة ولذَّاتها تخنق الكلمة فلا يظهر لها ثمر و«حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً» (مت 6: 21). فالشاب الغني حفظ الوصايا، ومع هذا لم يقدر أن يتبع السيد بل مضى حزيناً (لو 18: 23). والكتاب يُحذِّر أن اهتمام الجسد ومحبة العالم هما عداوة لله (رو 8: 7، يع 4: 4)، وأن «الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله.» (رو 8: 8) - ونريد أن نؤكِّد هنا على دور عدو الخير في تعطيل خلاص هذه الأنماط الثلاثة بإجهاض فِعْل الكلمة في قلوبهم، فهو كالطيور آكلة الحَبّ، ينتزع الكلمة المزروعة في القلب «لئلا يؤمنوا فيخلصوا.» (لو 8: 12) فهو صانع الضيق والتجربة والاضطهاد، وهو العدو المتسلِّل زارع الزوان في وسط الحنطة (مت 13: 25و28)، وهو وراء همّ هذا العالم وإغراء الغِنَى واللذات فتجوز عليهم الخديعة: «ولا ينضجون ثمراً.» (لو 8: 14) النمط الرابع: تقابله الأرض الجيدة المحروسة غير المدوسة، العميقة النظيفة دون أحجار تحت سطحها أو أشواك فوقها تخنق الزرع. هؤلاء هم الذين يسمعون الكلمة فيفهمونها ويحفظونها في قلب جيد صالح ويُثمرون بالصبر (لو 8: 15): سلاماً وتوبة وفرحاً ومحبة وخدمة وطمأنينة من جهة الغد، وانتقالاً من الأرضيات إلى السماويات، وتغييراً مطرداً يتصاعد من ثلاثين ضعفاً إلى مائة ضعف كل واحد حسب قامته. جماعـتـان: وكما نرى فالأنماط الأربعة تلتئم في جماعتين. الأولى: تضم الأنماط الثلاثة الأولى، والجماعة الثانية: هم أصحاب الأرض الجيدة. وقصد الرب أن يضع الجماعتين جنباً إلى جنب بحيث تكشف كل منهما الأخرى بالتضاد. فالجماعة الأولى بطبيعتها واهتماماتها لا تتلاقى مع الكلمة أو إن التقت تحترق فيها الكلمة أو تختنق. والجماعة الثانية تمثـِّل - بالضد - النفوس التقية التي تحررت من ضغوط الحياة الجسدية، فهي تُرحِّب بالكلمة وتطيعها فتثمر فيها. كما أن تعمُّد الرب أن يُفصِّل في أنماط الجماعة الأولى لم يكن بلا هدف، فهو ولا شكّ يقصد مساعدتها أن تكتشف هويتها، ويعرف كل نمط الأسباب وراء هذا الجمود والموات، وإجهاض النبتة بعد النمو القليل، أو لماذا برودة الحياة وفتورها وخضوعها للأباطيل، وتغرُّبها عن شخص المسيح وجماعة الخراف. فهذه الأنماط ليس محكوماً عليها أن تبقى هكذا، ولكن توبة أصحابها بعد اكتشاف العقبات أمام فعل الكلمة تضمهم فوراً إلى أصحاب الأرض الجيدة إن أرادت: فربما رجع أصحاب النمط الأول إلى أنفسهم يوماً يتساءلون عن جدوى هذه الحياة التي يدورون فيها مسلوبي الإرادة موثقي الأيدي مغمضي العينين. فهم في الكنيسة كأنهم زائرون أو عابرو سبيل يدخلون ويخرجون كما دخلوا. وقد يلتقون بالناس ولكنهم متغرِّبون عن صاحب العُرس. نقول، ربما أدركتهم نعمة الله، فاكتشفوا أن إبليس هو العقبة التي تمنع سماعهم لصوت الله «فيؤمنوا» (لو 8: 12)، وأن الرب المُحِب واقفٌ بالباب منذ زمان يقرع، وأن لهم أيضاً نصيباً عنده، فيهرعون بالتوبة إلى الرب قبل أن تمضي الحياة ويأتي الموت كما أتى لغيرهم، ويتعلَّمون كيف يحفظون قلبهم من الطيور المقتحمة منصتين إلى الصوت «فوق كلِّ تحفُّظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة» (أم 4: 23)، ويصنعون له سوراً وباباً لا يفتحه إلاَّ مَن بيده مفاتيح الحياة والموت. وربما تأسَّف أصحاب النمط الثاني على هذه الحياة الفاترة التي لا تكاد تفرح بعشرة الله حتى يرتدُّون إذا سطعت عليهم شمس الاضطهادات. وهم يُقارنون أنفسهم بإخوتهم المتقدِّمين الذين يختبرون حياة مستقرة في المسيح ويعيشون بالإيمان مردِّدين دوماً: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد...؟» (رو 8: 35). وربما أدركوا قدرة الله على أن ينزع منهم قلب الحجر ويُعطيهم روحاً جديداً وقلباً جديداً (حز 11: 19؛ 36: 26). أما الذين تخنق الكلمةَ عندهم الشهواتُ وغرورُ الغِنَى وهمومُ الحياة، فقد اعتنى الرب وشخَّص لهم حالتهم، مُبيِّناً أنه إن لم يقوموا بتنظيف أرضهم من الأشواك والحشائش الضارة، فلن يُعاينوا يوماً فرحة لقاء الرب. وربما سمح الرب لهم بالمرض والألم الذي تذبل معه شهوة الطعام والجنس وسائر لذَّات الحياة، ويصبح المال بلا قيمة غيرَ قادر على منح السعادة أو الشفاء؛ وعندها قد يلجأون إلى الكرَّام العظيم يسألونه أن ينزع الشوك من أرض حياتهم حتى تواصِل الكلمة فِعْلها وتؤتي ثمرها، فينجون من الموت. ولكن، للزارع دوره: كما بَدَا من المَثَل، فإن تربة القلب هي العامل الرئيسي في قبول الكلمة وإثمارها. فالرب يُشرك المؤمن في مسئولية قبول الكلمة عندمـا طالبه أن تكون أُذنـاه روحيتين ومهيَّأتين للسمع والفهم (مر 4: 20)، أي أن ينصت ويُركِّز ويحصُر نفسه فيما يسمع، وأن يكون إيجابياً فيقبل الكلمة بفرح (لو 8: 15) ويطيعها. كما أن عليه ألاَّ يتعجَّل الثمر كمؤمن لا تهتز ثقته في الرب «يُثمرون بالصبر» (لو 8: 15)، وأن يحفظ الكلمة في قلب جيد صالح، تاركاً للرب «الذي يُنمي» (1كو 3: 7) دوره الذي يتم في الخفاء. ولكننا لا نستطيع أن نُغفل دور الزارع (ويُمثـِّله الراعي والمعلم والخادم والواعظ) الذي ينثر الكلمة ويغرسها ويسقيها (1كو 3: 6)، فقد يكون إيجابياً مُسانداً النفوس الأمينة لقبول الكلمة، أو قد يكون سلبياً مُعطِّلاً مُشاركاً في وأد أثر الكلمة. وقد بيَّن الرب أهمية الخادم والراعي بأن عيَّن اثني عشر تلميذاً وسبعين رسولاً يُتلْمِذون الآخرين. فالخادم المتوشِّح بالروح المُرسَل من الله هو ضرورةٌ لتوصيل كلمة الخلاص. ولكي يدعو واحدٌ باسم الرب لنوال الخلاص لابد أن يؤمن أولاً. ولكي يؤمن لابد أن يسمع. ولكي يسمع لابد من كارز. ولكي يكرز الكارز لابد أن يُرسَل (رو 10: 13-15). بل إن الرب - من وسط كل الأرض - قد انتقى شاول الذي كان يضطهده، لأنه رأى فيه إناءً مختاراً له، وكانت كرازته مجداً للرب حتى الساعة الأخيرة. ولأهمية دور الخادم وتأثيره كانت هناك الوصايا التي تُذكِّره بالتزاماته: + «كُن قدوة للمؤمنين...» (1تي 4: 12، تي 2: 7) + «اعْكُفْ على القراءة والوعظ والتعليم.» (1تي 4: 13) + «لا طامع بالربح القبيح... ولا مُحب للمال.» (1تي 3: 3) - الخـادم الحقيقي يتـوارى خلف الصـليب ويُقدِّم المخلِّص، الكلمـة الحقيقيـة، متمثـِّلاً بـقول المعمـدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 3: 30). فرحه الحقيقي هو أن النفوس (العروس) ترتبط بالعريس السماوي، وهو كصديق للعريس يبتهج أن مخدوميه سائرون على الطريق الصحيح. الخادم الحقيقي يحتفظ للكلمة بكل قوتها وقدرتها على التعزية، والإنهاض، والتتويب، والتشجيع، وإنارة الذهن، والإنذار، وكشف الخبايا، والولادة من جديد (1بط 1: 23). وأمامنا كلمة القديس بطرس القصيرة التي نخست ثلاثة آلاف نفس وأنقذتهم من الموت (أع 2: 37). - على غير ذلك يكون الخادم المُدَّعي الذي يُقدِّم ذاته وبلاغته حاجباً عن الرب مجده. وفي الغرب تتحوَّل عظات البعض إلى مشاهد مسرحية تتصاعد إلى التصفيق والهتاف إعجاباً! ويسلبون الكلمة قوتها بضعفهم، ويجرِّدونها من قدرتها على التتويب بعدم طاعتهم هم لها، ويفقدون ثقة السامع بمحبتهم للعالم. وفي رسائل الرب إلى خدَّام الكنائس السبع في سفر الرؤيا كلام خطير للرعاة وصل إلى حدِّ التوبيخ والإنذار: هذا الذي ترك محبته الأولى وطُلِب إليه أن «اذكُـر مِن أين سقطت وتُبْ... وإلاَّ...» (رؤ 2: 5)؛ وهذا المتسيِّب الذي يتساهل مع المنحرفين عن الإيمان (رؤ 2: 20)؛ وهذا الذي يحسب أنه حي وهو ميت في الحقيقة وطُلِب إليه أن «تُبْ، فإني إن لم تسهر، أُقدِم عليك كلص» (رؤ 3: 3)؛ وهذا الفاتر الذي يتكلَّم من ذاته ولا يعرف أنه فقير وبائس وأعمى وعريان، والإنذار له: «... كُنْ غيوراً وتُب.» (رؤ 3: 16-19) - دور الخادم الحقيقي هام جداً لإنقاذ الأنماط الثلاثة الأولى وتتويب أصحابها. وهو غُصَّة في حلق إبليس الذي يُسعده أن يمتلئ الجو الكنسي بالكلام الأجوف غير المملَّح بالنعمة الذي هو أخطر من عدم الكلام، لأنه يُعطي انطباعاً أن هناك خدمةً وعملاً يؤدِّي إلى طمأنينة كاذبة بينما الموت يسعى كلصٍ في الظلام. كما هو هام أيضاً لتثبيت إيمان الجماعة الثانية. - على العكس، فالخادم المدَّعي خطر يتهدَّد الجميع، فهو كما يسلب من الجماعة الأولى رجاء العودة إلى الأحضان الأبوية؛ فإنه يسلب من الجماعة الثانية التعزية، ويُفتِّر الحياة، ويُعثر النفس ويقودها إلى الإدانة والانتقاد، فيخرج المستمع من الكنيسة وقد أصابه الحزن بدل أن ينال الفرح. إلى أصحاب الأرض الجيدة: إن اهتمام الرب بذكر أنواع مختلفة مِمَّن يسمعون الكلمة فلا يُثمرون، قَصَدَ منه ضمن ما قصد أن ينتبه أصحاب الأرض الجيدة، فيظلون على أمانتهم مواظبين على الصلاة والكلمة والتوبة، فتكون لهم سياجاً يحمي أرضهم من أن يستبيحها الغرباء، فلا يجرؤ إبليس على الاقتراب منها. كما يلزم أن تبقى التربة عميقة تسمح بامتداد الجذور باستمرار عشرة المسيح من خلال كلمته، والحديث معه في الصلاة، وتصحيح المسار دوماً، والاغتذاء من جسده ودمه، مما يحفظ حرارة العلاقة مع الرب ومحبته، حتى إذا جاءت التجربة أو تكاثر الاضطهاد لا يكون التعثُّر والارتداد، وإنما الارتماء في حضن المخلِّص، ومقابل الأرض الصخرية تصير الحياة بيتاً مبنياً على الصخر (مت 7: 24). وسيتعين على أصحاب الأرض الجيدة الحرص على تنقيتها يوماً بيوم من الأشواك والحشائش الضارة التي تسرق الغذاء، بالتوبة المتواترة مع وضع الأحمال والهموم على كاهل القدير، ورفض إغراء الحياة الجسدية والشراهة إلى المال أو الاتكال على الغِنَى، أو أن تضعف ثقتهم في الله وينهارون تحت وطأة الهموم كالآخرين، وكأنهم لم يستمعوا يوماً لكلمة الله. ربمــا نضيف أيضاً أن الأرض الجيدة تحتاج أن تُفلَّح وتقلَّب وتتعرض للهــواء النقي، وأن يمـرَّ فيهـا سلاح المحراث، فيقبل أصحابها بالشكر التجارب التي تتفاوت في شدَّتها لدعم الإيمان، وأن تُروَى دوماً بالماء أي بالخضوع للروح وتأثيره في القلب الذي يحفظه من الجفاف والقساوة، وأن يُضاف إليها السماد المُغذي الذي هو كلمة الله والصلاة والتناول والخدمة، ثم انتظار الرب بالصبر، والنمو فيه خطوة خطوة كل الحياة، حيث يتصاعد محصول الثمار من ثلاثين إلى ستين إلى مائة. ومن له أُذنان (للسمع) فليسمع. دكتور جميل نجيب سليمان |
