|
|
بمناسبة الخمسين المقدسة: القيامة والخلاص [ لأنك أنت هو حياتنا كلنا، وخلاصنا كلنا، ورجاؤنا كلنا، وشفاؤنا كلنا، وقيامتنا كلنا.] (من أوشية الإنجيل - القداس الباسيلي)
يأتي حدث القيامة بعد الأيام العصيبة السابقة التي جاز فيها الرب الأهوال من محاكمات ظالمة، وإهانات وشتائم وتعييرات وخيانات وآلام جسدية ونفسية بلغت قمتها عند الجلجثة، حيث رُفع السيد على صليب اللعنة والعار.. ووسط اضطراب الطبيعة واحتجاب الشمس، ودموع وآهات الجماعة المُحبَّة القليلة التي بقيت معه حتى النهاية؛ كان الموت الذي معه ذوت آمال جماعته وهي ترى جسده يسجَّى في قبر وُضِع على بابه حجر عظيم.
انتهت سريعاً سنوات ثلاث حافلة بالعمل والكرازة.. بمشاهدة المجد في الأردن وعلى جبل تابور.. بكلمات الحياة وآيات القوة.. بالجموع المتحلِّقة حول المعلِّم وتلاميذه.. أيام عظيمة انفتحت فيها العيون والقلوب على ملكوت السموات والحياة الأبدية.. كل ذلك مضى وطواه موت المخلِّص.. وانتهى مطاف الجماعة إلى عليَّة صغيرة أغلقوها عليهم مع الخوف والحزن وفقدان الرجاء.
بعد هذا كله يأتي حدث القيامة بعد ثلاثة أيام من موت السيد. إنه شمس تنبلج في الظلام، وقوة جبارة تزيح ركام اليأس والخوف، وبركان فرح يكتسح أمامه كل جبال الحزن.
وكل شيء يتغيَّر.. الحياة والوجود.. المستقبل وكل الغايات.. كلها لم تَعُدْ كما كانت. فقيامة الرب حدثٌ هائل مقابل حدث الصليب الهائل.. إنهما يلتقيان ليصنعا معاً حجر الزاوية في الإيمان المسيحي. والقيامة هي التي حوَّلت هوان الصليب وضعفه إلى إعلان قوة الله (1كو 18:1)، ومن آلة للإعدام وعلامة للعنة والعار (غل 13:3) إلى وسيلة الخلاص من الموت (1كو 18:1، غل 20:2، كو 20:1؛ 14:2) وشرط التلمذة (مت 38:10، مر 21:10، لو 23:9؛ 27:14) وموضع فخر المؤمنين (غل 14:6) وعلامة خاصة لابن الله يوم مجيئه للدينونة (مت 30:24).
ولقد أدرك آباؤنا بإلهام الروح القدس رفعة القيامة وجدواها ودورها في تحقيق الخلاص وموقعها في الإيمان المسيحي، حتى إن معلِّمنا بولس الرسول، لكي يكشف هذا الدور الذي للقيامة، استخدم المدخل العكسي، وهو: ماذا يكون الحال لو لم يكن المسيح قد قام؟ وكانت النتائج المُفزعة هي:
1. بطلان الإيمان (1كو 14:15و17)، 2. بطلان الخلاص وهلاك الذين رقدوا في المسيح («أنتم بعد في خطاياكم» 1كو 17:15و18)، 3. بطلان الكرازة وكذب الكارزين وتحوُّلهم إلى شهود زور (1كو 14:15و15)، 4. بطلان القيامة الأخيرة وسيادة الموت إلى الأبد (1كو 13:15و18)، 5. شقاء الذين ينحصر رجاؤهم في المسيح في هذه الحياة فقط (1كو 19:15)، 6. عدم جدوى الجهاد والمخاطرة والاستشهاد من أجل مسيح افترسه الموت. إنه يكون عطاءً بلا طائل ولا هدف ويجافي العقل والمنطق.. وإذا كان الموت هو، إذن، نهاية المطاف فلنأكل ونشرب ونتمتع، فالنهاية المحتومة واحدة (1كو 30:15-32).
فالصليب قرين القيامة، والقيامة قرينة الصليب ووجهه الآخر، والمسيح كان دائماً يُقرِن حديثه عن الصليب والموت بالقيامة (مت 21:16؛ 19:20؛ 32:26، مر 31:8؛ 34:10؛ 28:14، لو 22:9؛ 33:18). والصليب لا يقف وحده، ولكن القيامة تحقِّق كمال هدفه الخلاصي وتجعله وسيلة الحياة وأداة المصالحة بين السماء والأرض («عاملاً الصلح بدم صليبه» كو 20:1، أف 16:2)، والعلامة التي شقَّت التاريخ إلى ما قبل الخلاص وما بعده، والسلاح الذي جرَّد به المسيح الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً وظفر بهم فيه (كو 15:2).
دور القيامة في الخلاص، إذن، دور محوري، لا ينفصل عن عمل الصليب بل يلتحم به ويُظهِر مجده، وبدون القيامة لا يتجاوز الصليب في أحسن الأحوال أن يكون علامة تضحية عظيمة وموت نبيل (بل إنه في نظر آخرين عقوبة عادلة يستحقها مجدِّف وصانع شر ومثير للفتنة). وينتهي دوره عند هذا الحد.. على أحسن الفروض يمكن بغير القيامة أن ينضم المسيح إلى ألوف البشر والشهداء الذين ماتوا دفاعاً عن أوطانهم أو من أجل غايات نبيلة أو الذين حاصرتهم قوى البغي والشر وسلبتهم حياتهم.. كأحد وجوه ظلم البشر للبشر وقهرهم لاستغلال مواردهم أو لاستبقاء حياة الطغاة أو تنفيذاً لأحكام جائرة على مدى القرون.
إن القيامة هي التي تصنع الفرق وتكشف تفرُّد عمل الصليب. وها نحن نلقي بعض الضوء على عمل القيامة في الخلاص:
1 - إذا كان الصليب قد أظهر ناسوت الابن المتجسِّد، فإن القيامة أعلنت لاهوته. وفي اللاهوت المتَّحد بالناسوت (جسداً ونفساً)، نزل الابن إلى الجحيم كارزاً للأرواح التي في السجن (1بط 19:3). وفي اللاهوت المتَّحد بالناسوت فإن المخلِّص ليس إنساناً يموت، وإنما هو الإله المتجسِّد الذي بموته نقض أوجاع الموت وأبطل عِزَّه، ومِن ثمَّ يتحقَّق الخلاص. إنه رئيس الكهنة العظيم القدوس البار، الذي دخل إلى الأقداس مرة واحدة بدم نفسه، وليس بدم ثيران وتيوس كما كان يفعل رؤساء الكهنة اللاويون الذين كانوا يقدِّمون الذبيحة عن خطاياهم وجهالات الشعب، فوجد فداءً أبدياً (عب 14:4؛ 26:7؛ 1:8؛ 7:9و11و12). وقيامة الابن هي إعلان قبول الآب لذبيحة ابنه الفريدة، وبأن الدم المسفوك قد حقَّق غرضه («وإذ كُمِّلَ صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبدي» عب 9:5)، وأن قيامة الإله المصلوب قد كفلت الفداء الأبدي (عب 12:9)، والغلبة على الخطية والعالم ورئيسه إبليس.
2 - وإذا كانت القيامة إعلاناً عن لاهوت الابن وقوته، فإن قيامة المسيح تختلف عن قيامات أخرى تمَّت في العهدَيْن القديم والجديد.. فكل الذين قاموا قبل المسيح أو الذين أقامهم المسيح أو تلاميذه من بعده؛ أقامهم آخرون وعاشوا لبعض الوقت بعد قيامتهم، ثم ماتوا ثانية ككل البشر «عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد. لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة» (رو 9:6و10). والمسيح قام بقوة لاهوته وبدون معونة أحد، وحسب الموعد الذي حدده قبل أن يموت (مت 21:16؛ 19:20، مر 31:8؛ 34:10، لو 22:9؛ 33:18). وقام نشطاً بهياً كأنما لم يكن ميتاً في قبر ولثلاثة أيام («لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تَدَع قدوسك يرى فساداً» أع 27:2)، بينما احتاجت ابنة يايرس عند قيامها أن يعطوها طعاماً لتتقوى (مر 43:5). وقام المسيح تاركاً الأكفان علامة الموت في موضعها لظلمة القبر (يو 6:20و7)، وخرج منها دون أن يحلَّه أحد مثل ما حدث للعازر (يو 44:11). وقام المسيح والمجد والبهاء يحيطان به، والملائكة من حوله: فواحد يدحرج الحجر بعد قيامته، وملاكان في القبر الفارغ يبشِّران الآتين بقيامة السيد. والحقيقة أنه لم يكن ممكناً أن يُمسَك المسيح من الموت، لأنه الإله البار القدوس الذي لم يوجد في فمه غش (إش 9:53). وهو وإن كان قد مات موتاً كفَّارياً بسبب خطايا الإنسان التي وُضعت عليه («وُضِعَ عليه إثم جميعنا» إش 6:53، «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه» 2كو 21:5، «الذي أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا» رو 25:4)، فمحا الصكَّ الذي علينا وسمَّره بالصليب (كو 14:2)؛ إلاَّ أنه كان لا بد أن يقوم بسبب بره الشخصي الكامل المتمثِّل في إخلائه لنفسه (في 7:2)، وإخضاع مشيئته للآب (لو 42:22)، وحريته من كل خطية («مَنْ منكم يبكِّتني على خطية» يو 46:8). ومن أجل أن المسيح كان ينظر قيامته وهو بعد لم يمت، لذا استطاع أن يقبل آلام الصليب وأهوال الموت، رغم كل تحديات الصالبين.
3 - ثم إن القيامة هي إعلان الغلبة على العالم الموضوع في الشرير وما يمثِّله من صور الظلم والكذب والتسلُّط واضطهاد المؤمنين. فبينما حسب رؤساء الكهنة أنهم قد حاصروا الرب يسوع واستطاعوا في النهاية الإيقاع به واستصدار الحكم بموته.. وربما داخلهم الزهو وهم يرونه يُسلَّم للصالبين ويخضع للقهر والألم دون أن يفتح فاه (إش 7:53)، إلى أن رُفِع على الصليب وأَسلم الروح ووُضِع في قبر أُحكمت حراسته، وبينما أحس بعض تلاميذه أن كل شيء انتهي (لو 21:24)؛ تأتي قيامة الرب الجبارة بعد هذه التداعيات، لطمة ساحقة للظالمين المتجنِّين (كو 15:2)، وتشديداً للنفوس الكسيرة المنحنية تحت وطأة الألم، ونصرة للحق الذي يبدو أنه ضاع، وتشديداً للإيمان المهتز («في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» يو 33:16، «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا» 1يو 4:5)، وهزيمة للنفوس المتكبرة الباغية وملاحقتها بما جنت يداها («وأما الظالم فسينال ما ظلم به، وليس محاباة» كو 25:3)، وإدانة للعالم الشرير ورئيسه («الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» يو 31:12).
4 - قيامة المسيح كانت عربوناً للانتصار الكامل على الموت في القيامة الأخيرة («آخر عدو يُبطَل هو الموت» 1كو 26:15). وكان المسيح هو باكورة الراقدين (1كو 20:15) الذين لم يَعُدْ للموت سلطان عليهم.. وهكذا نزع الرب بقيامته خوف الموت من قلوب المؤمنين («فإذ قد تشارَك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويُعتق أولئك الذين - خوفاً من الموت - كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية» عب 14:2و15). فالذين يحيون القيامة مستعدون لقبول الموت في أي ساعة، فشوكته قد انتُزِعَت (1كو 55:15)، ويعبر بهم موت الأهل والأصدقاء فيودِّعونهم على رجاء اللقاء في الملكوت دون أن يرعبهم اقتراب الموت منهم («فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة... تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» رو 38:8و39). لقد سبقنا الرب إلى طريق الموت المجهول ليُجرِّده من سلطانه السابق، وليجعله الباب المفتوح على أمجاد الحياة الأبدية، وبه نعود إلى مكاننا القديم العتيد الذي فقدناه بالخطية.
5 - ثم يبقى أن مسيحنا المنتصر على الموت والجالس عن يمين الآب (أع 56:7) إلى أبد الآبدين (رؤ 18:1) يواصل عمله كمخلِّص من موت الخطية لكل مَنْ يقبل، وشفيعاً دائماً ينجِّي الملتجئين إليه من مؤامرات العدو، ويقيل المؤمنين من عثراتهم ويساندهم في ضيقاتهم («وإنْ أخطأ أحدٌ فلنا شفيعٌ عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» 1يو 1:2و2، «فمِنْ ثمَّ يقدر أن يُخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدَّمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم» عب 25:7).
وفي الزمان المعيَّن للخلاص الأخير (1بط 5:1) سيأتي الرب على السحاب في مشهد ستراه كل عين («لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً» 1تس 16:4، «هكذا المسيح أيضاً بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» عب 28:9). وكما ارتبطت قيامة الرب بإعلان الخلاص فمجيئه الثاني في القيامة الأخيرة مرتبط بإعلان الخلاص الأخير لتمجيد قديسيه («فإن سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها أيضاً ننتظر مُخلِّصاً هو الرب يسوع المسيح، الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» في 20:3و21). يا رب.. ما أمجد قيامتك! دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Sunday, 20 March 2011 20:38 |
