|
|
بمناسبة صوم الرسل الأطهار:
القيامة والكرازة [ العلاقة بين القيامة والكرازة علاقة عضوية. فإرسالية المسيح لتلاميذه ببشارة الخلاص للخليقة كلها، كانت بعد قيامته وانتصاره على الموت وتحقيق الخلاص. وكان محور بشارة التلاميذ (والرسل) هو قيامة الرب. وكانت شرعية قيادتهم للكنيسة تستند إلى أنهم شهود القيامة. لماذا كانت للقيامة كل هذه الأبعاد؟ وماذا عن عمل الرب وكرازته قبل الصليب والقيامة؟ ثم أَلَم يُرسِل الرب تلاميذه للخدمة قبل الصليب والقيامة. فماذا كانت، إذن، إرساليتهم الأولى هذه؟ وماذا حقَّقوا خلالها؟ وكيف تمّ إعدادهم وقتها للكرازة بالصليب والقيامة؟ هذا هو موضوع هذا المقال].
أولاً: عن خدمة الرب قبل الصليب:
من الطبيعي ألاَّ يُرسل الرب تلاميذه للبشارة بإنجيل الخلاص قبل تحقيق الخلاص، أي قبل الصليب والقيامة.
وعندما نتابع خطوات المسيح خلال سني خدمته الثلاث ونصف، نلاحِظ أنه رغم الإشارات الكثيرة التي ربطت بينه وبين الصليب منذ البداية: ولادته بين الخراف المُعدَّة للذبح، «اسمه “يسوع”. لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم» (مت 21:1)، شهادة يوحنا المعمدان أنه «حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 29:1)؛ إلاَّ أنه لم يُفصِح عن ذلك إلاَّ في أواسط خدمته.
كما أن عمومية الخلاص لم تتكشَّف في البداية. فخدمة الرب كانت تبدو موجَّهة أساساً إلى اليهود خاصته (يو 11:1) والمؤتمنين على الناموس والعهود والعبادة والمواعيد، والذين «لهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد» (رو 4:9و5). والرب يُصرِّح «لم أُرسَل إلاَّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 24:15). وحتى عندما كان له اثنتا عشرة سنة وتخلَّف عن رفقة أُمه العذراء ويوسف النجار، وجداه في هيكل أورشليم «جالساً في وسط المعلِّمين يسمعهم ويسألهم» (لو 46:2). وفي كرازته المُبكِّرة، استخدم الرب مجامع اليهود في السبوت وما يُقرأ في الأسفار ويشير إلى نبوَّات الأنبياء عنه (لو 21:4). وبشارته للأُمم في هذه المرحلة (الكنعانية مت 12:15-28، مر 24:7-30؛ قائد المئة مت 5:8-13، لو 2:7-10)، كانت استثناءً مقصودًا لإظهار أن التبنِّي سيكون لكل مَنْ يقبل الإيمان (يو 12:1)، فيصير مِنْ ثمَّ ابناً لإبراهيم بالإيمان (غل 6:3و29).
والرب يُبشِّر باقتراب ملكوت الله ويُنادي بالتوبة والإيمان بالإنجيل (مر 15:1)، ويطلب الالتزام الروحي بالناموس لا التمرُّد عليه (مر 44:1)؛ ولكنه لا يكشف كيف سيتحقَّق الخلاص، وحتى كلمات يوحنا المعمدان: «هوذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 29:1و36)، لا تُفصح عن كيف سيتم ذلك.
وفي الموعظة على الجبل (مت 5-7، لو 6) توجيهات في السلوك واستقامة العبادة المتَّجهة إلى الله لا إلى الناس، وتأكيد على دور الإنسان الجديد كملح للأرض وكنور للعالم، وتكميل الناموس، وتجاوز لمستوى الكتبة والفرِّيسيين الشكليين، وتهيئة الإنسان لنوع أفضل من الحياة (يو 10:10) تتطلَّب وصايا تناسب هذه الحياة الجديدة. ربما كان الباب الضيِّق والطريق الكَرِب هما التلميح اللافت لاجتياز الضيقات لدخول الملكوت.
ثم يستخدم الرب معجزات الشفاء، التي كثيراً ما يُقْرِنها بغفران الخطايا (مت 1:9-8، مر 1:2-12)، وإظهار سلطانه على الطبيعة (مت 23:8-27، مر 35:4-41؛ 47:6-51) في تنبيه الجموع إلى لاهوته وبنوَّته للآب، وقبل كل شيء محبته للبشر. كما يستخدم الرب المَثَل في التعليم الذي يُلفت النظر مباشرة إلى ملكوت السموات (مت 3:13-50، مر 26:4-34، لو 18:13-21) مقابل هذه الحياة الأرضية المؤقتة التي لا يصح أن نكتفي بها، وأنَّ هذا الملكوت يُغصَب (مت 12:11، لو 16:16)، ولكنه لا يكشف وقتها عن كيف ننال هذا الملكوت؟
على أن الرب - في إرساليته الأولى للتلاميذ - بدأ يتكلَّم عن الصليب الذي يجب أن يحمله مَنْ يريد أن يتبعه ويكون له تلميذاً (مت 38:10؛ 24:16و25، مر 34:8؛ 21:10، لو 23:9؛ 27:14). وبعدها أشار مراراً إلى موته وقيامته (مت 21:16، مر 31:8؛ 31:9؛ 33:10و34؛ لو 22:9؛ 25:17؛ 31:18-33، يو 14:3-17) وبَذْل نفسه فدية عن كثيرين (مت 27:20، مر 45:10). ولكن تلاميذه لا يدركون حتمية هذا الحل حتى أن بطرس أخذ ينتهر الرب ويحثّه ألاَّ يقبل هذه النهاية (مت 22:16، مر 32:8)، قبل أن تتسارع الأحداث بالفعل وتتصاعد نحو الجلجثة.
ثانياً: المسيح يختار تلاميذه ويعدُّهم للكرازة:
كانت معمودية المسيح من يوحنا المعمدان إعلاناً عن بدء خروجه إلى العالم، يُكلِّله هذا الظهور الإلهي الفريد للثالوث القدوس: روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً على الابن الصاعد للتوّ من مياه الأردن، وصوت الآب: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ» (مت 17:3) تتردَّد أصداؤه في الوادي في مشهدٍ مجيد غير مسبوق (مت 17:3، مر 10:1و11، لو 22:3، يو 32:1).
بعد معمودية المسيح أخذ يوحنا المعمدان يُنادي في البرية مُبشِّراً بالمسيَّا الذي انتظرته الأجيال شاهداً أن يسوع هو ابن الله (يو 29:1-34)، حتى أثار اهتمام تلاميذه بشخص المسيح، وبدأ بعضهم يسعى للتعرُّف عليه. ويذكر معلِّمنا يوحنا الإنجيلي (يو 35:1-40) أن أندراوس ورفيقاً له تبعا يسوع، الذي دعاهما ليمكثا معه طيلة اليوم. وكان هذا اللقاء لقاءً بهجاً غيَّر مسار حياتهما، فأخبر أندراوس أخاه سمعان: «لقد وجدنا مسيَّا» (يو 41:1)، وأتى به إلى يسوع. وفي لقاء سمعان به، غيَّر المسيح اسم “سمعان” إلى “صفا” أو “بطرس” (يو 42:1). هذه كانت بداية التعارُف.
ثم جاء يوم الاختيار والتعيين. فبعد أن استخدم الرب سفينة بطرس كمنبر لتعليم الجموع المزدحمة على الشاطئ، طلب إليه الدخول إلى العمق وإلقاء الشباك، وكان الصيد الكثير الذي لم يَفُزْ به بطرس ورفقاؤه الليل كله. عندها أدرك بطرس الفارق الشديد بين خطيته وقداسة الرب وخرَّ تائباً (لو 8:5)، فدعاه فاحص القلوب - هو وأندراوس أخاه وشريكيه يعقوب ويوحنا ابني زبدي - لكي يصيروا صيادين للناس لشركة الحياة الأبدية (مت 18:4-22، مر 16:1-20، لو 10:5). ومن بيت صيدا، مدينة بطرس، دعا الرب أيضاً فيلبُّس وبرثلماوس (نثنائيل) (يو 43:1-50). ومن مكان الجباية دعا الرب لاوي (متَّى) (مت 9:9)، ثم توما ويعقوب بن حلفى وتدَّاوس (يهوذا) أخا يعقوب وسمعان القانوي (الغيور)، وأيضاً يهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه (مت 2:10-4، مر 16:3-19، لو 13:6-16).
وكما نرى، فقد اختار الرب تلاميذه من بسطاء الناس العاميين لكي يُظهِر فيهم قوته ومجده وليُخزي بهم حكماء العالم. ورغم أنه من المنطقي أن يختار المسيح تلاميذه من رجال الدين العارفين بالناموس، إلاَّ أن هؤلاء كانوا على الأغلب محترفين حَرْفِيِّين مُرائين حتى أن الرب شبههم بالقبور المُبيَّضة من الخارج (مت 3:23-36، لو 39:11-52). وبالتالي فقد تم رذلهم وتنحيتهم، وأُخفيت عنهم معرفة المخلِّص التي قَبِلَها هؤلاء “الأطفال” الصيَّادون (مت 25:11، لو 21:10)، فطوَّب الرب عيونهم وآذانهم (مت 16:13و17، لو 23:10و24). وربما قيل إن بولس كان فرِّيسياً متعصِّباً، ولكن الأمر احتاج أن يظهر له الرب في الطريق إلى دمشق في مشهد زلزل كيان شاول الطرسوسي، وحوَّله من مضطهِد للكنيسة إلى بولس أعظم المبشرين بالخلاص على مدى التاريخ.
لقد تَرَك التلاميذ كل شيء وتبعوا السيد (مت 22:4، مر 20:1، لو 11:5)، وبدأوا في مرافقته في جولاته في المجامع، حيث كان يُعلِّم ويشفي المرضى (مت 23:4؛ 35:9، مر 14:1). وفي عظة المسيح على الجبل كان التلاميذ يلتفون حوله يستمعون ويتعلَّمون (مت 1:5، لو 20:6)، ويرون معجزاته، وإخراجه للشياطين التي كانت تشهد للاهوته، وسلطانه على الطبيعة، وغفرانه للخطايا (مت 2:9، مر 5:2، لو 20:5؛ 24:8)، وغيرته على بيت أبيه (يو 14:2-17).
كانت كرازة التلاميذ في أيامها الأولى (مت 10، مر 6، لو 1:9-6؛ 1:10-24) موجَّهة إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (مت 6:10)، وألاَّ يمضوا في طريق الأُمم أو مدن السامريين؛ وإطار عملهم هو التنبيه إلى اقتراب الملكوت (أي اقتراب الخلاص المؤدِّي إلى الملكوت)، وعمل المعجزات، وأن يسيروا على نهج معلِّمهم فلا يقتنون مالاً ولا مزودًا، متحمِّلين كل الأتعاب من أجل الذي أرسلهم، ومستندين إلى روح أبيهم السماوي الذي يتكلَّم فيهم (مت 20:10).
كانت عين المعلِّم على تلاميذه، فهؤلاء هم الخميرة الصغيرة التي ستخمِّر العالم كله (1كو 6:5، غل 9:5). فهُم رفقاؤه الدائمون، يسجِّلون مواقفه في قلوبهم وعقولهم، ويُشاهدون معجزاته، ويسمعون كلماته، وربما يشرح لهم وحدهم ما يغمض عليهم فهمه (كما في مَثَل الزارع: مت 18:13-23، مر 10:4-20). وهم يرونه يُصلِّي (لو 18:9) كما كان يُعلِّمهم كيف يصلُّون (لو 1:11-4)، حتى لم تَعُد لهم حياة إلاَّ معه: «يا رب إلى مَنْ نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 68:6). وقد كشف لهم أسرار ملكوت السموات، وعلاقته بالآب والروح القدس، في أحاديث لم يسمعها أولاً إلاَّ هم، قبل أن تُتاح لكل مَنْ يؤمن من خلال الأناجيل المكتوبة. وجعلهم يعرفون مَنْ هو: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» (مت 15:16-19، مر 29:8، لو 20:9، يو 69:6)، وأعطاهم مفاتيح ملكوت السموات، وأن يحلّوا ويربطوا على الأرض. وحدَّثهم عن موته وقيامته وأنه سيأتي في مجد أبيه (مت 27:16؛ مت 24)، وأنهم في مجيئه الثاني سيجلسون على كراسي يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 28:19). وسمعوا كلامه أنه نور العالم (يو 12:8)، وأنه المُحرِّر (يو 36:8)، وأنه الراعي الصالح (يو 11:10و14)، وأنه الطريق والحق والقيامة والحياة (يو 25:11؛ 6:14).
وقد أعدَّهم السيد للكرازة فيما بعد للأُمم بإشاراته أن كثيرين من غير اليهود، بل من العشارين والزواني، سيأتون من المشارق ومن المغارب ويتَّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت الله (مت 11:8؛ 31:21، لو 29:13)؛ وبما ذكره من أمثال في نفس المجال: مَثَل الابنين (مت 28:21-32)، ومثل الكرَّامين (مت 33:21- 44، مر 1:12-12، لو 9:20-19)، ومثل عُرْس ابن الملك (مت 1:22-14).
وقد تفرَّد التلاميذ أيضاً بأن شهدوا تجلِّي الرب على جبل تابور (مت 1:17-8، مر 2:9-8، لو 28:9-36)، وبأنَّ السيد غسل أرجلهم (يو 12:13-17)، وأنه ناولهم جسده ودمه قبل أن يصيرا هبة الابن لكل مَنْ يؤمن (مت 26:26-29، مر 22:14-26، لو 19:22و20)، وسمعوا حديثه الوداعي الطويل ليلة الصَّلْب (يو 14-16) الذي وعدهم فيه بإرسال الروح القدس المعزِّي، وشاهدوه في صلاته الشفاعية - ومهمته تقترب من نهايتها - سائلاً من أجلهم (يو 17).
كانت هذه الفترة، إذن، تدريباً وإعدادًا وتعليماً وتنويراً وتلمذة، قبل أن تباغتهم الأيام الصعبة وينكشف المستور عن كيف يتحقَّق الخلاص، فيجتازون المحنة بصور مختلفة، إلى أن تأتي القيامة الباهرة ومعها فرح لقاء السيد بعد انتصاره. ومن خلال الصليب والقيامة، كان فَهْم ما سمعوه قبلاً ولم يستوعبوه: «فتذكَّرْنَ كلامه.» (لو 8:24)
ثالثاً: الكرازة بعد القيامة:
نُلاحظ أن الرب في لقائه الأول بعد قيامته المظفرة مع تلاميذه، كلَّفهم بالكرازة بالخلاص، انطلاقاً من أورشليم وإلى العالم أجمع. إذن، فقد دقت ساعة العمل العظيم: + «أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متَّكئون، ووبَّخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يُصدِّقوا الذين نظروه قد قام. وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. مَنْ آمن واعتمد خَلَصَ، ومَنْ لم يؤمن يُدَنْ.» (مر 14:16-16) + «دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس... وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين.» (مت 18:28-20) + «هكذا كان ينبغي أنَّ المسيح يتألَّم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأنْ يُكرَز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأُمم، مُبتدأً من أورشليم. وأنتم شهودٌ لذلك.» (لو 46:24-48) + «ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. فقال لهم يسوع أيضاً: سلامٌ لكم. كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا.» (يو 20:20و21)
رابعاً: الكرازة بالقيامة:
نلاحظ أيضاً أن القيامة هي موضوع الكرازة، إذ أنها تكشف عن لاهوت وقوة المسيح المنتصر على الموت الذي استعبد الجميع (عب 15:2)، «لأعرفه وقوة قيامته» (في 10:3)، كما أنها تحتوي الصليب وتستدعيه بالضرورة؛ بل تجلّيه وتُحقِّق كل ما قَصَدَ إليه من فداء ومُصالحة: «عاملاً الصُّلح بدم صليبه» (كو 20:1)؛ وغفران الخطايا: «ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية» (1يو 7:1)؛ وإدانة للعالم الشرير ورئيسه: «الآن دينونة هذا العالم» (يو 31:12)، «لأن رئيس هذا العالم قد دِينَ» (يو 11:16)؛ ودخول إلى الحياة الأبدية: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3). وهنا نقتطف أجزاء من خطاب بطرس الرسول يوم الخمسين يشير إلى هذه الحقيقة:
+ «يسوع الناصري... هذا أخذتموه... وبأيدي أَثَمَة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن مُمْكِناً أن يُمسَك منه. لأن داود يقول فيه: ... لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تَدَعَ قدُّوسك يرى فسادًا... فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهودٌ لذلك.» (أع 22:2-32) وقد كانت أوراق اعتماد أي تلميذ أو رسول، هي أنه كان مع الرب بعد قيامته: «واحدٌ منهم شاهداً معنا بقيامته» (أع 22:1)، «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإنَّ الحياة أُظْهِرَتْ، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا» (1يو 1:1و2). وكانت دلالة صدق هذه الشهادة وحقها أن التلاميذ واصلوا طريق الكرازة حتى نهايته باذلين حياتهم من أجل سيدهم الذي أحبهم ومات من أجلهم. ولو كان خبر القيامة مختلقاً أو أكذوبة أشاعها التلاميذ، لما صدَّقوها هم أنفسهم وقَبِلوا الموت من أجل مسيحٍ غَلَبَه الموت ولم يَقُم. ومن ناحية أخرى، فإن قيامة المسيح «باكورة الراقدين» (1كو 20:15) هي ضمان القيامة الأخيرة لكل مَنْ يؤمن، وإعلان الخلاص الأخير؛ وإلاَّ فباطلٌ إيماننا، وموت الخطية لا يزال يحكمنا (1كو 16:15-19):
+ «إنْ يُؤلَّم المسيح، يَكُنْ هو أول قيامة الأموات.» (أع 23:26)
+ «مُبارَكٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة وَلَدَنا ثانيةً لرجاء حيّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظٌ في السموات لأجلكم، أنتم الذين بقوة الله محروسون، بإيمانٍ، لخلاصٍ مُسْتَعَدٍّ أن يُعلَن في الزمان الأخير.» (1بط 3:1-5)
خامساً: القيامة في الطقس الكنسي:
لقد ظلت القيامة والاحتفاء بها جزءًا لا يتجزَّأ من العبادة الكنسية وطقوسها وألحانها وقانون إيمانها: “تألَّم وقُبِرَ وقام في اليوم الثالث كما في الكُتُب”. فيوم القيامة (الأحد) صار هو يوم الرب الجديد ويوم الاحتفال الإفخارستي الأسبوعي، وضمن ألحانه تنشد الكنيسة: “هلليلويا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ونبتهج فيه”، وتختم ألحاناً كثيرة بـ “لأنك قمتَ وخلَّصتنا”؛ إدراكاً منها أن القيامة تُكمِّل عمل الصليب الخلاصي. وفي كل قدَّاس يهتف المؤمنون: “بموتك يا رب نُبشِّر، وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف”.
أما في الخماسين المقدسة، فيطوف الكهنة والخُدَّام الكنيسةَ في كل قداس بأيقونة القيامة، يتقدَّمها الصليب، وذلك بعد قراءة الإبركسيس (أعمال الرسل) وقبل قراءة الإنجيل؛ إشارةً إلى أن القيامة هي محور الكرازة منذ الكنيسة الأولى، وأنها سر النهوض من موت الخطية بعمل الصليب. وينشد المُرتِّلون أثناء الدورة: “المسيح قام من بين الأموات” (باليونانية: “خرستوس آنستي إك نكرون”، وبالقبطية: “Pi`xrictoc aftwnf `ebol'en nheqmwout”).
وحتى في الجنازات - أيام الخماسين المقدسة - فالصلوات تكون بلحن الفرح، وتبدأ أيضاً بـ “خرستوس آنستي”، لأن التأكيد على قيامة المسيح هنا هو الرجاء الوحيد المُتاح في مناسبة كهذه. ولا شك أن هذا الترتيب يُحدِث أثره في تعزية المؤمنين وإخراجهم من سجن الحزن إلى يقين الحياة الأبدية؛ بل إننا نتمنى لو بدأنا كل صلوات الجنازات على مدى العام بلحن: “المسيح قام من بين الأموات”، لأنه الردّ المباشر على حضور الموت، عدونا الأخير.
أما بعد، ففي تناولنا للعلاقة بين القيامة والكرازة، عرضنا إلى خدمة الرب الأولى: كيف بدأت؟ وإلى ما هدفت؟ وكيف أظهر الرب أن طريقه يمر بالصليب والقيامة فداء للبشر الذين أحبهم. وبعد أن اختار الرب تلاميذه بدأ في إعدادهم للعمل الكرازي، بالتعليم والمعجزة والقدوة. وإذا كان الصليب قد زلزل كيانهم؛ فإنَّ القيامة قد أنهضتهم، وكشفت لهم قوة مخلِّصهم وكمال فدائه، ووهبتهم إيمانهم المُفتقَد والاستعداد للخدمة. وما أن حلَّ الروح القدس عليهم، حسب وعد الرب، حتى خرجوا يُبشِّرون بالخلاص، ويفتنون المسكونة، وهم يكرزون للجميع بقيامة الرب الفادي التي ظلت محور فرح الكنيسة وشدوها على مدى الأجيال. دكتور جميل نجيب سليمان |
