|
|
في الخدمة:
العمل الإلهي في الخدمة
إذا كان هدف الخدمة الأساسي هو دعوة العالم لتبعية المسيح، أي الإيمان به والتمتُّع بخلاصه، وبالتالي النجاة من الموت ونوال الحياة الأبدية؛ فإنَّ الله هو الذي رسم هذا الطريق، وهو الذي يهيئ القلوب لقبول الإيمان، وهو الذي يُساند النفس التائبة برعايته كل الطريق، وهو الذي يُحرِّك الأشواق إلى التوبة في النفوس الضالة، وهو الذي يُشجِّع الخادم على مواصلة رسالته، والذي يُقدِّسه، ويتكلَّم فيه، ويثمر في خدمته، ويُعزِّيه وقت الضيق والآلام والفشل، ويُبهجه بالذين يضمهم الرب إلى كنيسته كل يوم.
فالخدمة هي موضوع اهتمام الله، وإذا كان الله هو الهدف فهو أيضاً الوسيلة، والخادم هو أداة عمل الله، المُنفِّذ لمشيئته، الطائع لوصاياه، الساعي دوماً لمجد الله، المتمثِّل بسيده؛ مُنكراً ذاته، ومتَّكلاً على إلهه، طالباً عونه في كل خدمة صغرت أم كبرت.
وتكشف لنا كلمة الله عن هذا الدور الذي لله، الآب والابن والروح القدس، ونعمته، في كل جوانب خدمة النفوس وتعليمها ورعايتها وقيادتها إلى الحياة الأبدية. عن عمل الآب:
في اليوم التالي لمعجزة إشباع الجموع من الخمس خبزات والسمكتين، قدَّم الرب يسوع نفسه للعالم على أنه خبز الحياة الحقيقي، وأنَّ مَنْ يُقبِل إليه لا يجوع (يو 32:6-35). وأشار إلى أن الآب الذي «أحب... العالم حتى بذل ابنه الوحيد» (يو 16:3)، والذي “لا يُسرُّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز 23:18؛ 11:33)؛ هو الذي يجتذب النفوس لتُقبِل إلى الابن لتنال الخلاص، وأنَّ أحداً لا يقدر أن يُقبِل إلى الابن إن لم يجتذبه الآب (يو 44:6). وهذه هي كلمات الرب كما جاءت في الأصحاح السادس من إنجيل معلِّمنا القديس يوحنا:
+ «كل ما يُعطيني الآب فإليَّ يُقبل، ومَنْ يُقبِل إليَّ لا أُخرجه خارجاً.» (37:6) + «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أنَّ كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً، بل أُقيمه في اليوم الأخير.» (39:6) + «لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إنْ لم يجتذبه الآب الذي أرسلني، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير.» (44:6) + «ويكون الجميع متعلِّمين من الله. فكل مَنْ سَمِعَ من الآب وتعلَّم يُقبِل إليَّ.» (يو 45:6)
وفي حديثه إلى اليهود المجتمعين بعد تفتيح عيني الأعمى - وكان موقف أكثرهم سلبياً إزاء المعجزة الباهرة - قال الرب يسوع إنه باب الخراف الذي إنْ دخل به أحدٌ يخلص، وإنه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 7:10-11). ولكن الرب يوضِّح هنا أن الآب هو الذي يهيئ الخراف لقبول دعوة الحياة، وهو الذي يحفظها ويحميها من مكائد إبليس المتربِّص بها لاختطافها، وأنَّ الله لن يسمح بهلاكها. وهذه هي كلمات الرب:
+ «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أُعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي. أبي الذي أعطاني إيَّاها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد.» (يو 27:10-30)
وفي حديث المسيح إلى تلاميذه بعد العشاء الأخير قال الرب: «إن أحبني أحدٌ يحفظ كلامي، ويُحبُّه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً... الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني.» (يو 23:14و24)
فالآب الذي يحب ابنه، يحب كل مَنْ يحبه ابنه، وينزل مع ابنه في ضيافته أبداً. وأنَّ الابن، الذي أخلى نفسه من كل مجده، يُقدِّم نفسه كمحقِّق لمشيئة الآب الذي أرسله.
فالنفوس التي اختارها الله، بعلمه السابق، بقبولها الإيمان، يعطيها لابنه لتصير ضمن خاصته، وأنها لا تقدر أن تتبع المخلِّص إن لم يجتذبها الآب. وأنَّ كل نفس ممسكة بالحياة الأبدية هي متمتعة بحماية الآب وابنه، ومحصَّنة ضد الهلاك وضد مكائد العالم ورئيسه إبليس، لأنها موضوعة في يد الآب وفي يد الابن الذي خلَّصها بدمه وموته على الصليب:
+ «لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشابهين صورة ابنه، ليكون هو بِكراً بين إخوة كثيرين. والذين سبق فعيَّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضاً. والذين دعاهم، فهؤلاء برَّرهم أيضاً. والذين برَّرهم، فهؤلاء مجَّدهم أيضاً.» (رو 29:8و30)
عن عمل الابن:
أما عن عمل الابن في الخدمة، فلأنه المخلِّص الذي «ليس بأحد غيره الخلاص» (أع 12:4)، ولأنه الذي أخبرنا عن الآب «الذي لم يَرَه أحدٌ قط» (يو 18:1)؛ بل فيه عرفنا الآب: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 9:14)، واتساع حبه: «هكذا أحب الله العالم» (يو 16:3)، ولأنه الوسيط الواحد لعهدٍ جديد (1تي 5:2، عب 15:9؛ 24:12) الذي «غسَّلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه» (رؤ 5:1و6)، والشفيع (عب 25:7، 1يو 1:2)، ولأنه طريقنا إلى الله الآب (يو 6:14)، ولأنه أخذ جسدنا صائراً مثلنا في كل شيء ما عدا خطيتنا (عب 15:4) لكي نصير نحن مثله (1يو 2:3). من هنا يكون الابن هو غاية الكرازة ووسيلتها.
وها هي كلمات العهد الجديد تلقي الضوء على عمل المسيح في الخدمة: + فهو طريقنا إلى الآب: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاَّ بي.» (يو 6:14) + وإننا بدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً (يو 5:15)، وفيه نستطيع كل شيء: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني.» (في 13:4) + وباسمه ننال عطايا الآب: «ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجَّد الآب بالابن» (يو 13:14)، «أنا اخترتكم... لكي يُعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي» (يو 16:15)، «كل ما هو لي فهو لك (للآب)، وما هو لك فهو لي» (يو 10:17)، «كل ما للآب هو لي.» (يو 15:16) + وهو الذي يهب الحياة لكل مَنْ يؤمن به - سواء هنا: «مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 20:2)، «إنْ دخل بي أحدٌ فيخلُص ويدخل ويخرج ويجد مرعى» (يو 9:10)، «أما أنا فقد أتيتُ لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يو 10:10)؛ أو في مجيئه الثاني: «... لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3)، «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17)، «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 36:3)، «وهذه هي الشهادة: أنَّ الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. مَنْ له الابن فله الحياة، ومَنْ ليس له ابن الله فليست له الحياة» (1يو 11:5و12)، «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو 27:10و28)، «مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير... مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه.» (يو 54:6-56) عن عمل الروح القدس:
منذ صعود المسيح وحلول الروح القدس يوم الخمسين، حسب وعده، فإننا في الروح القدس ننال كل استحقاقات الفداء وكل ما عمل المسيح لأجل الإنسان. + فهو المعزِّي والمعلِّم والمُذكِّر: «وأما المعزِّي، الروح القدس، الذي سيُرسله الآب باسمي، فهو يُعلِّمكم كل شيء، ويُذكِّركم بكل ما قلته لكم.» (يو 26:14) + وهو الذي يشهد للسيد: «... روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي» (يو 26:15)، «ذاك يمجِّدني، لأنه يأخذ مِمَّا لي ويُخبركم.» (يو 14:16) + وهو المرشد للحق: «... روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق.» (يو 13:16) + وهو روح الميلاد الجديد: «إن كان أحد لا يولَد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 5:3)، «... بمقتضى رحمته خلَّصنا بغُسْل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس.» (تي 5:3) + وهو الفاعل في كل أسرار الكنيسة: بدءًا بالمعمودية «سيُعمِّدكم بالروح القدس.» (مت 11:3، مر 8:1، لو 16:3، يو 33:1، أع 5:1؛ 16:11) + وهو المتكلِّم في أفواه الكارزين: «لستم أنتم المتكلِّمين بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم.» (مت 20:10) + وهو الذي يُحرِّك القلوب للإيمان بالمسيح المخلِّص: «وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس» (1كو 3:12)، «ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك (أي هذا الشخص) ليس له (أي المسيح).» (رو 9:8) + وهو معلِّم الصلاة: «كذلك الروح أيضاً يُعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلِّي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنطق بها.» (رو 26:8) + وهو: «روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب.» (إش 2:11) + وهو واهب المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والتعفُّف (غل 22:5، رو 5:5، 1تس 6:1). + وهو روح القداسة (رو 4:1)، والتبرير: «لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 11:6) + وهو روح التبكيت الذي يُحرِّك النفس إلى التوبة: «ومتى جاء ذاك يُبكِّت العالم على خطية...» (يو 8:16)، «فلما سمعوا نُخِسوا في قلوبهم... فقال لهم بطرس: توبوا...» (أع 37:2و38)
عن عمل النعمة:
تُذكر كلمة “النعمة” كثيراً في الكتاب المقدس، وهي قد تعني “البركة والعطية”، جسدية كانت أم روحية: «وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (أم 34:3، يع 6:4، 1بط 5:5)، أو قد تأتي بمعنى البركة مع السلام والفرح والطمأنينة: «ونعمة عظيمة كانت على جميعهم» (أع 33:4)، أو بمعنى القبول والرضا: «لأنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله.» (لو 30:1)
أما في معناها الخاص في العهد الجديد، فالنعمة هي تعبير عن عطاء الله الغني والثمين، والذي لا يُقدَّر، الذي يهبه الله المُحِب لِمَنْ يريد أن يأخذ. والنعمة مجانية، لأن أحداً لا يملك ما يُقدِّمه مقابلها غير أن يقبل. فحب الله غير المحدود للإنسان، وفداؤه وخلاصه وحياته الأبدية الممنوحة لكل مَنْ يؤمن، وهبات الروح والأسرار خلال مسيرة الحياة؛ هي جوانب من فيض نعمة الله غير المحدودة.
والنعمة ترتبط بعمل الأقانيم الثلاثة. فارتباطها بعمل الابن يتضح في الآيات: «لأن الناموس بموسى أُعطِيَ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو 17:1)، «نعمة ربنا يسوع المسيح» (رو 20:16و24، 2كو 14:13)، «فتقوَّ أنت يا ابني بالنعمة التي في المسيح يسوع» (2تي 1:2)، «حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا تملك النعمة بالبر، للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا.» (رو 21:5)
والنعمة هنا هي تخصيصاً نعمة الخلاص: «لأنكم بالنعمة مُخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله» (أف 8:2) التي كلَّفت الابن تجسُّده وموته على الصليب، وهي أعظم النِّعَم التي أتاحها الله لكل مَنْ يؤمن.
ومعلِّمنا بولس الرسول في افتتاحيات اثنتي عشرة رسالة من رسائله الأربعة عشرة، يُقرِن النعمة بالآب والابن: «نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح»، باعتبار أن النعمة يفيضها الله الآب في ابنه يسوع المسيح من خلال الروح القدس “روح النعمة” (عب 29:10).
ونحن نختبر عمل نعمة الله في الخلاص، وفي حياة الخدمة، كما نختبرها في كل جوانب الحياة الأخرى. وفي اختبار القديس بولس، نجد أن نعمة الله هي سر النمو والثمر الكثير: + «ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة... ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي.» (1كو 10:15) + «أنا غرستُ وأبُلُّوس سقى، لكن الله كان يُنْمِي. إذاً ليس الغارس شيئاً ولا الساقي، بل الله الذي يُنمي.» (1كو 6:3و7)
خدمتنا، إذن، هي تتميم لمشيئة الله، وتحقيق لمقاصده، وهي أولاً وأخيراً عمل الله الآب والابن والروح القدس، وهي تقديم “الواقف على الباب” - المسيح - للمخدومين، ودفعهم إلى التعامُل معه واختبار خلاصه واقتناء حياة القداسة بالروح القدس: «القداسة التي بدونها لن يرى أحدٌ الرب.» (عب 14:12)
وإذا كان الله هو الهدف وهو الوسيلة، فنعمته هي التي تستخدمنا وتتكلَّم فينا، وهي التي تدعو وتغيِّر وتشكِّل وتصنع الخليقة الجديدة في المسيح يسوع.
والخدمة المثمرة هي التي يعملها الله وليس الإنسان. وكلما توارينا خلف الجنب المطعون والجبين المكلَّل بالشوك، وكلما بدا المسيح في خدمتنا وليس نحن؛ كان الثمر مؤكَّداً. لأن هذا هو وعد الله: إنَّ “كلمته لا ترجع إليه فارغة” (إش 11:55).
ربما كانت بساطة مواهب الخادم في بعض الأحيان أمراً إيجابياً، لأنها تؤدِّي به مباشرة إلى الاعتماد أساساً على عمل الله في خدمته، فتنمو وتتسع. كما أنه في بعض الأحيان تكون وفرة مواهب الخادم وتنوُّعها وإحساسه بها دون تكريسها لحساب الله، عائقاً أمام العمل الإلهي في تلك الخدمة.
فلنسلِّم للرب كل ما لنا، ليستخدمه من أجل مجده، ولننسكب عند موضع الجلجثة أمام مخلِّص العالم الذي أرسلنا، نسأله المعونة والقوة في خدمة مَنْ مات لأجلهم. ولتستنر أفكارنا بكلمة الله الحيَّة الباقية. ولتخضع نفوسنا لتبكيت الروح القدس المُنشئ التوبة، فننال العزاء، ونجد نعمة عوناً في حينه. دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Sunday, 20 March 2011 21:08 |
