|
|
في أسبوع الآلام: نحن والصليب والخلاص
للمتأمل في كلمة الله تبدو خطة الله للخلاص ضاربة في أعماق الزمن، وممتدة إلى آفاق لا يُدرَك مداها.
وها هو معلِّمنا القديس بولس في مقدمة رسالته إلى أهل أفسس يشير إلى البُعْد الأزلي لهذه الحقيقة: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته» (أف 3:1-5). كما يشير معلِّمنا القديس بطرس إلى بُعْدها الأبدي: «أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مُستَعَدٍّ أن يُعلن في الزمان الأخير.» (1بط 5:1)
وعلى امتداد الزمن كانت خطة الخلاص حلقات متصلة، كل منها تؤدِّي إلى الأخرى. فالوعد الإلهي بالخلاص تُرجم خلال الأجيال بالرعاية والتأديب والرمز والوصية؛ بل والتوجيه المباشر من خلال الآباء الأُول، ثم بإرسال الأنبياء، حتى جاء ملء الزمان لإخلاء الابن (في 7:2)، وتجسُّده (1تي 16:3)، فميلاده البتولي (لو 11:2، غل 4:4و5)، فإعلان العهد الجديد (عب 15:9؛ 14:12)، والتبشير بإقبال ملكوت الله (مت 28:12)، فاجتياز دروب الآلام والأحزان الساحقة وضمنها معاناة جثسيماني وخيانات مَنْ أحبهم، إلى ألوان التعيير والاستهزاء والإهانة والضرب واللطم: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يُكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب 10:2). حتى الخطوات الحاسمة من الفداء، من الارتفاع على الصليب وقبول الموت: «إذ محا الصكَّ الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مُسمِّراً إياه بالصليب» (كو 14:2)، إلى قيامته المنتصرة، وبعدها صعوده إلى المجد حيث سيأتي المخلَّصون: «فمِن ثمَّ يقدر أن يخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 25:7)، فإرسال الروح القدس لتأسيس الكنيسة ومساندتها حتى مجيء الرب الثاني وإعلان الخلاص الأخير: «هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه.» (عب 28:9) الصليب والخلاص:
والسؤال الآن: إذا كانت كل حلقات الخلاص مترابطة، وكلها ضرورية للخلاص، فلماذا يبرز من بينها دور الصليب، ويُحتفى به، ويفرد له الإنجيليون حيزاً كبيراً فيما كتبوه، مع أنه لا يقف وحده، فمجد الصليب لا يتراءى ولا يتلألأ إلاَّ في نور القيامة؟!
وللإجابة على هذا السؤال يمكن القول:
1. إن الصليب كان الخطوة الأولى في المرحلة الحاسمة من إتمام الفداء. وهو الخطوة الأصعب والأكثر إيلاماً، والمحاطة بالعار والضعف والإهانة والفضيحة، والمكلَّلة بالشوك والألم ونزف الدم، والمؤدية إلى الموت، والتي أظهرت الثمن الفادح الذي تحمله الله من أجل خلاص الإنسان: «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة.» (عب 22:9)
2. ومن أجل دور الصليب المحوري في الخلاص، فقد صار علامة ابن الله: «عاملاً الصلح بدم صليبه» (كو 20:1)، «حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء» (مت 30:24)، وعلامة كنيسته وموضوع فخرها: «وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلِبَ العالم لي وأنا للعالم.» (غل 14:6)
3. إن الصليب - بالمسيح - لم يَعُدْ فقط علامة الخلاص والفخر، بل هو إعلان قوة الله وحبه الأبدي، وقدرته على الغفران، والانتصار على إبليس والعالم والخطية لكل مَنْ يؤمن: «فإنَّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المُخلَّصين فهي قوة الله.» (1كو 18:1)
4. كما أن الصليب هو الوسيلة التي تمجَّد الله بها: «قد أتت الساعة ليتمجَّد ابن الإنسان... وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع. قال هذا مُشيراً إلى أية ميتة كان مُزمعاً أن يموت» (يو 23:12و32و33). (وقد أشار الكتاب إلى الموت الذي يُمجِّد الله في حالة القديس بطرس: «... قال هذا مُشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يُمجِّد الله بها» يو 19:21). فكما أن هناك مجد القيامة، فهناك أيضاً مجد الصليب. ولكن هذا يمر من باب المعاناة وبذل النفس والترك الأبوي والعزلة الأليمة: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» (مت 46:27، مر 34:15)
الصليب والمؤمن:
هكذا صار الصليبُ للمؤمن البابَ المفتوح على الحياة الأبدية، وصار كل مؤمن مدعواً لحمله، متشبهاً بسيده، ما دام ينشد خلاص نفسه: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني » (مت 24:16)، «ومَنْ لا يحمل صليبه ويأتي ورائي، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً» (لو 27:14). وصار الألم من أجل الإيمان طريقاً إلى المجد، لأنه في الأساس مشاركة مع المسيح في آلامه. والذين يشاركون الرب في آلامه سيتمتعون هنا بحياة المسيح فيهم، وفي الأبدية بمجد القيامة: «مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 20:2)، «فدُفنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة» (رو 4:6و5)، «إن كنا نتألم معه لكي نتمجَّد أيضاً معه.» (رو 17:8)
ربما كانت كلمات مثل: “حَمْل الصليب”، أو “الصَّلْب مع المسيح”، أو “التألُّم معه”، أو “الموت معه”؛ تبدو غامضة للبعض، وقد يرونها مجرد كلمات تأملية أو ذات معانٍ تجريدية تتجاوز إمكانية التطبيق. وها نحن نسترشد بكلمة الله ونعمته المُخلِّصة لجميع الناس (تي 11:2) لنعرف معنى هذه المواقف وكيف يمكن تحقيقها في حياتنا الإيمانية:
1. فأول ما يتبادر إلى الذهن هو المعنى الحرفي أي الموت الفعلي والاستشهاد من أجل الإيمان، كما جازه الشهداء منذ تأسيس الكنيسة وعلى مر العصور وإلى آخر الأيام: «إن كنا قد متنا معه، فسنحيا أيضاً معه.» (2تي 11:2)
2. كما تعني قبول الاضطهاد من أجله. وقد يكون الاضطهاد نفسياً أو تمييزاً علنيًّا أو تدبيراً بالظلم أو سلباً للحقوق وما أشبه: «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم» (يو 20:15). وقد يُعاني بعض المتغربين عن شخص المسيح الاضطهاد - على سبيل الخطأ - وقد يزعجهم ذلك، ولكنها قد تكون فرصتهم لكي يندمجوا ضمن جماعة المؤمنين القابلين اضطهادهم بفرح كي يشتركوا أيضاً معهم في مجد المسيح. أما الذين يندبون حظهم في الحياة بسبب ما يتعرضون له من اضطهاد، أو الذين يختصرون الطريق فيستكثرون الصليب ويتوجَّهون إلى بلادٍ أخرى، فلن ينالوا أجر احتمال الصليب. كما أن هناك مَنْ لا يربطهم بشخص الرب غير أسمائهم، ومن هنا فما أسهل أن يقطعوا صلتهم به تماماً ليرتبطوا بآخر لأسباب متنوعة، ولكن كلها جسدية أرضية. وموقف الرب من هؤلاء معروف وسجَّله الكتاب: «مَنْ ينكرني قدام الناس أُنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السموات» (مت 33:10)، «إن كنا ننكره فهو أيضاً سينكرنا. إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه.» (2تي 12:2و13)
3. كما تعني أيضاً قبول الآلام (بأنواعها؛ حتى آلام المرض والآلام النفسية) والأمراض وألوان العذاب ومصاعب الحياة ومشاكلها وهمومها إذا رضينا بها صابرين كأنها شركة ألم مع المسيح، فتتحول من مجرد سمة من سمات الحياة على الأرض يُعانيها الجميع إلى شركة في المسيح يصير لها بُعدها الأُخروي: «لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهاً بموته» (في 10:3)، «أفرح في آلامي لأجلكم، وأُكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة.» (كو 24:1)
4. كما تعني الموت عن الخطية وكراهية الشر والشهوات الأرضية، وأن يحيا المؤمن باذلاً نفسه حباً في المسيح والقريب، خادماً الكل خاصةً الغرباء والأعداء، كحبة حنطة ماتت في محيط العالم فأثمرت ومجَّدت الله: «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُتْ فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. مَنْ يحب نفسه يُهلكها، ومَنْ يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يو 24:12و25)، «فإن مَنْ أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها، ومَنْ يهلك نفسه من أجلي يجدها» (مت 25:16). ويرتبط بهذا أيضاً التخلِّي عن تعظُّم المعيشة وحب الرفاهية والانشغال الزائد بالحياة الجسدية بصورة عامة: «لأن اهتمام الجسد هو موت» (رو 6:8). فإذا كانت «محبة العالم عداوة لله» (يع 4:4)، فإن إخلاء القلب من محبة العالم وما يعنيه من ضبط الرغبات من أجل المسيح هو حمل لنير المسيح (مت 29:11) حبًّا فيه: «ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 24:5). فمن المستحيل الجمع بين رأس مكلَّل بالشوك وأعضاء مرفهة.
5. وقد تعني أيضاً بذل الجهد والوقت والمال والمواهب من أجل مجد المسيح والكنيسة.
6. بل إن حياة الجهاد والنسك والعبادة والأصوام والتوبة الملتزمة والتعفُّف واختيار الباب الضيق والطريق الكرب، هي بنوع ما حَمْل للصليب وقبول للموت بالنية من أجل التمتع بشركة المسيح إلى الأبد. على أننا نريد أن نؤكِّد هنا أن هذا كله جهد محفوف بالإخفاق إن لم تسنده نعمة الله، فنحن لا نستطيع أن نحمل الصليب وحدنا، حتى إن أردنا؛ فالمسيح هو شريكنا الحقيقي في حمل صليبه ونيره. وإذا كان المسيح في ضعفه قد سخَّروا سمعان القيرواني ليحمل عنه الصليب الذي سقط تحته، فالأمر الآن يختلف، فهو شفيعنا عند الآب (1يو 1:2)، «فمِن ثمَّ يقدر أن يُخلِّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 25:7)، وهو رفيق الحياة وكل الطريق، ووجوده معنا وفينا هو الضمان لكي نستطيع أن نواصل حياتنا هنا بلا عثرة ولا لوم قدامه حتى أنفاسنا الأخيرة.
ولعل قدوم أسبوع الآلام وما يحمله إلينا من أجواء جثسيماني والجلجثة فرصة ثمينة أتاحتها لنا نعمة الله كي نرتمي تحت قدمي المصلوب نسأله أن يهبنا كيف نقبل حَمْل صليبه، وتسليم أنفسنا للموت معه كي يحيا هو فينا: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مُستهيناً بالخزي، فجلس في يمين عرش الله.» (عب 2:12) دكتور جميل نجيب سليمان |
