Home المقالات أعظم من يونان
Print

 

القيامة والحياة الأبدية

 

إذا كانت قيامة الرب تعني نصرته على الموت، ومِنْ ثم أَكملت مع الصليب الفداء وخلاص المؤمن من الموت الأبدي، وحطَّمت شوكة الموت أي الخطية (1كو 56:15)، وحرَّرت المؤمن من سلطانها إلى الأبد، ووهبته أن يحيا قوياً غالباً متمتِّعاً بالقداسة؛ فإنها على المدى البعيد برهنت على صدق وعد الله بأن «لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو 16:3)

 

فقيامة المسيح من بين الأموات، والتي بشَّر بها الرب تلاميذه مراراً قبل أن يجوز الآلام وموت الصليب (مت 21:16، مر 31:8؛ 31:9؛ 33:10و34، لو 22:9؛ 25:17؛ 31:18-33، يو 14:3-17)، هي برهان القيامة الأخيرة للمؤمن من الموت (إذ قد صار المسيح مِن ثمَّ «باكورة الراقدين» - 1كو 20:15، و«أول قيامة الأموات» - أع 23:26)، وهي تحقيقاً لوعده «إني أنا حيّ فأنتم ستحيون» (يو 19:14). ويصير يقين المؤمن بحياته الأبدية وقيامته في اليوم الأخير - تلبيةً لنداء الرب في مجيئه الثاني المخوف المملوء مجداً (مت 31:25-34و46، يو 28:5و29) - عنصراً أصيلاً في الإيمان المسيحي، لا مجرد تلاوة من الشفاه لختام قانون الإيمان: “وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”.

 

فللخلاص الذي أنعم به الرب على المؤمنين بُعدان:

 

أولهما: التمتع بالحياة الجديدة (رو 4:6)، التي تختلف جذرياً عن الحياة القديمة أي حياة الخطية والتي يوهب المؤمن القوة على التخلي عنها ثم كراهيتها والجهاد ضدها، مع إرادة التوبة إذا ضعف الإنسان وخضع لسطوة الخطية. كما يميزها ميل وممارسة القداسة والعبادة والنسك والتطلُّع إلى الحياة الأبدية: «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17)؛ وهي في هذا تختلف عن الحياة المزدوجة التي تعرج بين الفرقتين، والتي تتعايش فيها الخطية مع التدين الشكلي.

 

وثانيهما: نوال الحياة الأبدية كميراث طبيعي للبنين: «رِثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 34:25)، «وكل مَنْ ترك... من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية» (مت 29:19)، «مَنْ يغلب يرث كل شيء» (رؤ 7:21)؛ ونتيجة أساسية للخلاص على كل مؤمن أن ينتبه إليها ويتمسَّك بها: «مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 19:6)، ويجعلها نصب عينيه آناء الليل وأطراف النهار.

 

وإذا لم يكن رجاء الحياة الأبدية عنصراً أصيلاً في الخلاص المسيحي، فماذا يكون المسيح، إذن، قد صنع، بصليبه وموته وقيامته؟ وإذا كان أقصى ما استطاعه الرب أن يُعلِّمنا بعض الوصايا النبيلة، فما الفرق، إذن، بيننا وبين غيرنا؟ وإذا كان رجاؤنا في المسيح هو في هذه الحياة فقط، نكون - كما قال المغبوط بولس بحق - «أشقى جميع الناس» (1كو 19:15). وإن غاب من حياتنا هذا اليقين بأن خلاصنا يتضمن حياتنا مع المسيح وفيه إلى الأبد، لا يكون المسيح قد صنع شيئاً. فالموت يظل جاثماً على الجميع، ولا يكون المسيحي المؤمن مختلفاً عن أي ملحد لا يؤمن بإله.

 

إنجيل المسيح والحياة الأبدية:

 

وها هي كلمات الكتاب تكشف لنا عن ارتباط الحياة الأبدية بالخلاص وقيامة الرب ومجيئه الثاني ليضم مختاريه إلى ملكوته الأبدي:

+ «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو 16:3)

+ «أنا هو القيامة والحياة. مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.» (يو 25:11و26)

+ «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية.» (يو 36:3)

+ «مَنْ يؤمن بي فله حياة أبدية.» (يو 47:6)

+ «فإن الحياة أُظهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا.» (1يو 2:1)

+ «وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به: الحياة الأبدية.» (1يو 25:2)

+ «وهذه هي الشهادة: أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. مَنْ له الابن فله الحياة، ومَنْ ليس له ابن الله فليست له الحياة. كتبت هذا إليكم، أنتم المؤمنين باسم ابن الله، لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية.» (1يو 11:5-13)

+ «الحق الحق أقول لكم: إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو 24:5)

+ «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أُعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي.» (يو 27:10و28)

+ «وأما الآن إذ أُعتقتم من الخطية، وصرتم عبيداً لله، فلكم ثمركم للقداسة، والنهاية حياة أبدية.» (رو 22:6)

+ «لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا.» (رو 23:6)

+ «لِيَ الحياة هي المسيح، والموت ربح.» (في 21:1)

+ «مَنْ يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية.» (غل 8:6)

 

الحياة الأبدية وحياتنا الروحية:

 

لا شكّ أن غياب اليقين بالحياة الأبدية من حياة الكثيرين هو وراء خوفهم من الموت، الذي داسه الرب، ولكنه لا يزال قائماً عندهم. وهو وراء الانهيار تحت وطأة التجارب، رغم أنها ليست نهاية المطاف، ولكن ستطويها الأيام وتصير سبباً لمجد أكثر للصابرين الشاكرين، وهو وراء الخضوع لإغراءات العالم من خطايا وتنعُّم وانصياع للشهوة؛ بل وإنكار الإيمان، رغم أن «العالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد.» (1يو 17:2)

وعلى العكس من ذلك، فإن يقيننا بالحياة الأبدية، التي برهنت عليها قيامة الرب، يغيِّر حياتنا الروحية من الجذور، وينعكس على كل سلوكنا الإيماني. وها نحن نعرض فيما يلي لبعض هذه الجوانب:

 

1. النظرة إلى الموت:

 

عندما يُفاضل عامة الناس بين الحياة والموت، فإنهم بالطبع يُفضِّلون الحياة. فالحياة هي الوجود، والموت هو اللاحياة أي العدم. وهم يرون الحياة هبة عظمى متعددة الأوجه، بينما الموت هو الحرمان من كل شيء. ومن هنا، فعندما يختطف الموت أحد الأحياء، فالناس يجزعون لأن واحداً منهم طواه العدم. لقد فقدوه كما فقدهم. وربما - مع هذا - يحسُّون في داخلهم شيئاً من الرضا أنهم باقون ولا زالوا يفلتون منه. حتى إذا أتت الساعة - وكانت النفس واعية - يكون اللقاء مرعباً جداً.

ولكن المجيء الأول للمسيح قد غيَّر هذه الصورة تماماً، عندما مات وقام ثم داس الموت وأنعم بالحياة الأبدية على كل مَنْ يؤمن. فلم تَعُدْ المفاضلة، إذن، بين الحياة الحاضرة (المؤقتة مهما طالت) والموت، وإنما بين الحياة الحاضرة والحياة الأبدية، والتي يفصل بينهما الموت، ويقود من الأولى إلى الثانية.

ولابد أن يُدرك المؤمنون هذا التغيير الذي طرأ على مصير الناس. فالناس جميعهم يذوقون الموت. فالذين فعلوا الصالحات (أي المؤمنون الذين قبلوا المسيح مخلِّصاً) يمضون إلى قيامة الحياة، والذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة (يو 39:5).

لقد انتزع الرب كل رهبة الموت ورعبه لَمَّا هبط إلى أعماق الهاوية ثم قام منتصراً. وإذ سبقنا إلى طريق الموت المجهول جرده من سلطانه السابق (1كو 55:15)، وجعله الباب الذي يفتح على أمجاد الحياة الأبدية. وهذا يجعل للأحزان البشرية المصاحبة للموت سقفاً لا تتعداه. فالدموع في المآقي، ولكن يقين اللقاء مع الرب في الأبدية يملأ القلب ويمنح العزاء.

 

2. النظرة إلى المصير الأبدي:

 

إن مَنْ لا يدرك أن خلاصه يتضمن حياته الأبدية هو واحد من اثنين: إما واحدٌ يجهل حقوقه في المسيح الذي آمن به، وعليه أن يعرفها ويتمسك بها؛ وإما واحدٌ يحيا خارج دائرة الإيمان ولا يزال يتعثَّر في شِباك الخطية والعالم الشرير. وهذا قد وُضع أمامه طريق الحياة وطريق الموت، وهو يستطيع، إنْ أراد، أن ينجو بحياته بالتوبة هارعاً إلى أحضان المخلِّص الواقف بالباب (رؤ 20:3).

بالطبع فإن الضمان الأبدي هو في يد الله (يو 27:10-29، 2تي 12:1). ولكن هناك أيضاً انحياز المؤمن لشخص المسيح (يو 3:17)، والتزامه بحياة القداسة «التي بدونها لن يرى أحد الرب» (عب 14:12)، والتوبة الدائمة (مت 29:19، مر 30:10، لو 30:18)، والتناول من الأسرار (يو 51:6و54و58)، والحياة في نور كلمة الله (يو 63:6و68)، وطاعتها (مت 17:19)؛ بما يستلزم أصلاً معرفتها واللَّهج فيها، مع الاتضاع والسهر والاتكال على النعمة لمساندة هذا الجهاد، وما يتصل بكل هذا من توجُّهات.

 

3. النظرة إلى الآلام والتجارب:

 

إيقاننا بالحياة الأبدية وحضورها في حياتنا الحاضرة كعنصر محوري في الإيمان، يمنحنا رؤية جديدة للآلام والتجارب وهموم الحياة وقصورها وإحباطاتها. إنه يُجرِّدها من أشواكها ويُقلِّص تأثيرها ويُعظِّم قدرتنا على التعامل معها، بل ويجعل لها دوراً عند استعلان الخلاص الأخير (عب 28:9، 1بط 5:1) تتصاغر معه أمام المجد الذي ينتظرنا: «إن كنا نتألم معه لكي نتمجَّد أيضاً معه. فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا» (رو 17:8و18)، فهي لم تَعُدْ معاناة بلا معنى، ومجرد ثمرة من ثمار الخطية وعقوبتها، وسمة من سمات الحياة على الأرض، إضافة إلى كونها مشاركة مع الرب في آلامه (في 10:3)؛ وبالتالي سبباً للفرح والفخر (أع 41:5)، وعنصراً من عناصر قصد الله في حياتنا لتدبير خلاصنا واستمرار توبتنا وحفظنا في قداسة الحق.

فمرحى بآلام محفوظة في سفر تذكرة أمام الله الغني الذي لا ينسى تعب المحبة (عب 10:6)، والقادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر (أف 20:3).

ربما يُقال في هذا الصدد أن في الموت أيضاً نهاية لكل أنواع الآلام، يستوي في ذلك المؤمنون وغير المؤمنين. فما الفرق؟ والإجابة: إن في الحياة الأبدية ليس فقط نهاية للآلام، ولكن أيضاً الرد الإلهي على قبولنا الآلام والموت مع المسيح لكي نقوم معه. فالألم يتوقف لكي تبدأ أيضاً الحياة السعيدة الممجَّدة والتي لا تعرف الألم أو الحزن أو الوجع أو الضعف أو النقص (رؤ 4:21)، والتي تختلف، إذن، عن حياة البكاء وصرير الأسنان.

 

4. النظرة إلى حياتنا الأرضية بصورة عامة:

 

وما تتسم به من اختلاف الأنصبة على مستوى الأفراد والدول بين الغني والفقير، والصحة والمرض، والنجاح والفشل، والتقدُّم والتخلُّف، والعدل والظلم، والسلام والحرب، وهكذا، وهكذا. ورغم أننا في أحيان كثيرة نكتشف مسئولية الأفراد والدول عن هذه المفارقات، إلاَّ أننا في أحيان أخرى تأخذنا الحيرة ونعجز عن تبين الأسباب، ولا نجد غير حقيقة أن العالم كله قد وُضع في الشرير (1يو 19:5)، وأن الخطية هي عار الشعوب (أم 34:14)، وهي وراء كل متناقضات الحياة واضطرابها وقصورها وفسادها.

 

من هنا تصير الحياة الأبدية من ناحيةٍ نهاية لهذه الحياة الحاضرة، والتي مهما تمتع فيها البعض جسدياً أو روحياً، ومهما كانت درجة التقدُّم التي أحرزتها فيها بعض الدول؛ يظل النقص وعدم الشبع أبرز سماتها، وتظل النفوس عطشى، مُدركة أنه ليس لها هنا مدينة باقية (عب 14:13)، وإنما تطلب المدينة العتيدة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله (عب 10:11)، ومتطلعة إلى الوطن السماوي الأفضل (عب 16:11). وبالطبع فإن نصيب المؤمنين سيكون أوفر إذ قد وضعوا كل رجائهم في مخلِّص العالم، ومِن ثمَّ سيكونون المدعوين إلى عشاء عُرْس الخروف (رؤ 9:19). ولكننا نظن أن مراحم الله سوف تسع - بصورةٍ ما - بسطاء البشر، أمثال: لعازر المضروب بالقروح (لو 20:16)، وضحايا المجاعات والحروب وثورات الطبيعة؛ الذين عانوا الظلم والجهل والفقر والمرض واستوفوا البلايا والمحن. وسوف يجيء الوقت لكي يُحقق لهم عدل الله العزاءَ والراحةَ التي لم يعرفوها كل الحياة.

 

كما أن عدل الله لن يترك مَنْ فعلوا السيئات، وضمنهم كل مَنْ أذلُّوا البشر وظلموهم واستحلُّوا دمهم. فهناك أيضاً قيامة الدينونة، حيث «سينال الظالم ما ظلم به، وليس محاباة.» (كو 25:3)

 

بعد هذا كله، أليس مما يثير الدهشة أن كثيرين مِمَّنْ دُعِيَ عليهم اسم المسيح، وربما هم أعضاء مواظبون على الذهاب إلى الكنيسة، ويعرفون بعض المعرفة؛ لا تمثِّل الحياة الأبدية لهم هدفاً. هم مشغولون بالأهداف قصيرة الأمد: السلام القلبي، المساندة في التجارب، النجاح في الحياة. أما هذا الهدف العظيم الذي كلَّف المسيح حياته، فهو غائب أو شاحب، لا يحتل شيئاً من العقل الواعي، أو ربما - في استهانة لا تليق بالمؤمنين - يعتبرونه أمراً مؤجَّلاً إلى نهاية الحياة، بينما هو بالفعل يصبغ كل حياتنا الإيمانية بصبغته. وبدونه تفقد حياتنا أهم أبعادها وأكثرها تأثيراً.

 

فلننتبه إلى أعظم حقوقنا في المسيح، والتي جاءت لنا بقيامته المجيدة. وليكن شعار كل منا ما كتبه معلِّمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس: «جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعِيتَ أيضاً.» (1تي 12:6)

دكتور جميل نجيب سليمان