Home المقالات أعظم من يونان
Print

بين القيامة والصعود:

المهام الأخـيرة

 

الأيام الأولى:

 

سنوات ثلاث برفقة المعلم مرَّت سريعاً كأنها الحلم. كانت أياماً هانئة حافلة بخدمة تسندها الآيات (مر 13:6، لو 17:10). وكلمات المعلم، وهي تشق طريق الحياة الجديدة، تنير الذهن والقلب، وحضوره يهب السلام واليقين وينتزع الخوف: «أنا هو لا تخافوا» (مت 27:14، مر 50:6)، والروح يتكلَّم فيهم (مت 20:10، لو 12:12). وبعض التلاميذ تمتعوا بمشاهدة السيد في بعض مجده عندما تجلَّى على جبل تابور (مت 1:17-8، مر 2:9-8، لو 28:9-36).

 

حتمية الصليب:

 

على أنه عندما بدأ الرب يشير إلى الصليب والموت والتكفير وبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 21:16؛ 18:20و19و22؛ 12:26، مر 31:8؛ 33:10و34و38و45، لو 22:9و44؛ 50:12؛ 25:17؛ 31:18-33، يو 32:12)، لم يُرق هذا الاتجاه للتلاميذ أو لم يتفهموه ولم يدركوا حتميته؛ فلماذا نعكِّر صفو الحياة بالآلام والموت؟! حتى أنَّ بطرس انتقد الرب وأخذ يحثه ألاَّ يقبل هذه النهاية غير المبررة. ولكن الرب انتهره على الفور: «... اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مت 21:16-23، مر 31:8-33)؛ مؤكِّداً له ولسائر التلاميذ أن طريق الخلاص، الذي من أجله تجسَّد، يمرُّ بموت الصليب وتتبعه القيامة.

 

والصليب يقترب:

 

وكانت أحداث الصليب هي الصخرة التي تحطَّمت عليها الآمال وتفرقت بسببها الجماعة. وعندما اجتمع الرب بتلاميذه ليلة آلامه ليأكل معهم الفصح، ويعطيهم جسده المكسور ودمه النازف، ويحدثهم حديثه الأخير ويصلي من أجلهم، كان أكثرهم مثقَّلاً بالهم والحزن والخوف والتوجُّس من الغد المجهول، وواحدٌ كان يُدبِّر لتسليمه. وفي البستان، والمعلِّم يجاهد في الصلاة، تحامل ثلاثة من تلاميذه على أنفسهم لمرافقته عن بُعد، ولكنهم لم يستطيعوا مغالبة النوم من الحزن (مت 40:26و43، مر 37:14و40، لو 46:22). ولما أقبل عليه الجنود في البستان برفقة التلميذ الخائن «تركه الجميع وهربوا» (مر 50:14)، وتحقق قوله: «وتتركوني وحدي» (يو 32:16)، ولم يبقَ حوله غير النساء ومعهم يوحنا. ومن بعيد تبعه مرقس فأمسكه الشبان من إزاره فتركه لهم وهرب عارياً (مر 51:14و52). وحاول بطرس أن يتبعه فانزوى وسط خدم رئيس الكهنة ليتابع محاكمته متخفياً، ولكن حصار الجواري والعبيد أخرجه عن طوره حتى أنه بدأ يلعن ويحلف منكراً معرفته بالسيد الذي كان قد حذَّره قبل ساعات. وعند صياح الديك التفت الرب ونظر إلى بطرس فتذكَّر كلام الرب وخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرًّا (مت 69:26-75، مر 66:14-72، لو 54:22-62، يو 25:18-37).

 

عند الصليب:

 

عند الصليب ربما توقَّع البعض - أو تمنَّى - أن يصنع الرب معجزته الكبرى وينزل عن الخشبة في مشهد باهر يزلزل الذين أسلموه وحاكموه وحكموا عليه بالموت وتحدّوه أن يفعل هكذا (مت 40:27-42، مر 30:15-32، لو 37:23). ولكن آمال التلاميذ تهاوت عندما رأوا السيد يستسلم ولا يُقاوم وبقي على الصليب - رغم ثورة الطبيعة - حتى أسلم الروح. وعندما أنزلوا الجسد الهامد ووضعوه في القبر ذي الحجر الكبير، بـدا الأمر واقعاً مُرًّا. فالسيد قد مات وماتت معه رسالته وخدمة التلاميذ. وإذا كان السيد لم ينزل من على الخشبة، فأيُّ أمل في أن يقوم من الموت حتى ولو كان قد أكَّد مراراً أنه سيقوم في اليوم الثالث.

 

بعد موت السيد:

 

هكذا كان حال جماعة المسيح بعد أحداث الجمعة الأليمة. فالإيمان قد اهتزّ، والذاكرة سقطت منها الكلمات: وعود السيد، ونبوَّات الكتاب. ومع الحزن والحيرة وتبدُّد الرجاء دخل الجميع إلى عليَّة، قبعوا فيها وغلَّقوا عليهم أبوابها.

 

حصار الشكّ:

 

غير أن النساء كُنَّ أكثر حيوية، فقد بَقَيْنَ بعض الوقت أمام القبر بعد الدفن. وفجر الأحد مضين إلى القبر ليضعن الحنوط والأطياب، وقد عاد بعضهن بأخبار تثير التفاؤل. فالحجر قد دُحرج (مت 2:28، مر 4:16، لو 2:24)، والقبر خالٍ من  السيد (لو 3:24)، وكانت الأكفان موضوعة بنفس ترتيبها، كما رأين ملائكة بشرنهن بالقيامة؛ بل قد التقى الرب بالفعل بالمجدلية ومريم الأخرى (مت 9:28و10)، وهاتان جاءتا وبشرتا التلاميذ «فتراءى كلامهن لهم كالهذيان ولم يُصدقوهن» (لو 11:24)، وركض بطرس ويوحنا إلى القبر الفارغ: «فمضى بطرس متعجباً في نفسه مما كان» (لو 12:24)، أما يوحنا فقد «رأى وآمن» (يو 8:20). وفي الطريق إلى عمواس ظهر الرب لتلميذَيْن، ووبخ بطء إيمانهما بنبوَّات الكتاب (لو 25:24)، ولما ذهبا وأخبرا الباقين بما جرى «... لم يُصدِّقوا ولا هذين.» (مر 12:16و13)

ورغم أن السيد مضى بعد ساعات من قيامته إلى تلاميذه، حسب وعده للمجدلية ومريم الأخرى، ودخل عليهم والأبواب مُغلَّقة؛ فقد حسبوه روحاً (لو 37:24)، ولكنه أكَّد لهم حقيقة قيامته من الموت. ولم يكن توما حاضراً هذا اللقاء، وعندما ذكر له التلاميذ أن الرب قام حقًّا، لم يصدِّق. وجاء الرب في الأحد التالي وسمح لتوما أن يلمس آثار المسامير وطعنة الحربة الغائرة، فهتف خاشعاً نادماً: «ربي وإلهي» (يو 28:20)، ولكن الرب لم يرحب بهذا الإيمان المعتمد على العيان قائلاً: «لأنك رأيتني يا توما آمنتَ! طوبى للذين آمنوا ولم يَرَوْا.» (يو 29:20)

 

العودة إلى البداية:

 

رغم كل شيء، فالحياة صارت غير الحياة، والإيمان لم يسترد عافيته، وظهورات الرب الأولى المتباعدة لم تكشف لهم عن خطة العمل للمستقبل، ومجال الخدمة لم يَعُدْ كما كان؛ فالعداء صار سافراً، ولا شكّ أنهم يفتقدون حضور المعلم الدائم كما كان معهم خلال خدمتهم. كما تضاعفت هيبته ولم يعودوا يستطيعون أن يقتربوا منه ويسائلونه بحرية كما تعودوا من قبل، حتى إنهم عند بحيرة طبرية لم يجسر أحدهم أن يسأله: «مَنْ أنت» (يو 12:21). من هنا وجدت فكرة العودة إلى العمل قبولاً عند أكثرهم، والصيادون عادوا إلى سفنهم التي كانوا يستعملونها في انتقالاتهم أثناء الخدمة: «قال لهم سمعان بطرس: أنا أذهب لأتصيَّد. قالوا له: نذهب نحن أيضاً معك» (يو 3:21). عاد التلاميذ، إذن، إلى نقطة البداية.

 

تصحيح المسار:

 

هذا ما آل إليه حال جماعة الرب: التلاميذ والرسل، الخميرة التي ستُخمِّر العجين كله، والبذرة التي ستوضع في الأرض لكي تأتي بالثمر الكثير؛ لكن عين الرب كانت عليهم. فمن أجلهم - الذين يحملون البشارة المُفرحة إلى كل الأرض - ومن أجل كنيسة العهد الجديد - أي نحن - كانت هذه الأربعون يوماً التي بَقِيَ فيها الرب بعد قيامته، وحتى صعوده المجيد إلى السماء.

فماذا كانت مهام الرب الأخيرة بالتحديد:

 

1- تأكيد القيامة:

 

لأن القيامة هي حجر الزاوية في الإيمان المسيحي، فبها يتمجَّد الصليب ويستكمل جوهر الخلاص، وهي موضوع الكرازة القادمة، والتي تكشف عن لاهوت وقوة المسيح المنتصر على الموت، وتضمن عمل الصليب في الفداء والمصالحة (كو 20:1)، وهي محور شهادة التلاميذ (أع 22:1، 1يو 1:1و2)، كما أنها ضمان القيامة الأخيرة للمؤمنين (1كو 16:15-20، 1بط 3:1-5)؛ مِن هنا كانت أولى مهام الرب إثبات وتأكيد قيامته بالجسد الذي أخذه من القديسة العذراء مريم، وإتاحته الفرصة بظهوره لتلاميذه ولمن حولهم لكي يكونوا حقًّا شهود قيامته (1كو 5:15-7). وها هو يُصرِّح أمامهم: «انظروا يديَّ ورجليَّ، إني أنا هو» كما أنه «أخذ وأكل قدَّامهم» (لو 39:24و43). فهو لم يكن، إذن، روحاً أو خيالاً؛ وإنما جسدٌ حقيقي عَبَرَ عليه الموت ولم يَطْوِه، بل هو داسه وأبطل سطوته إلى الأبد.

وهكذا توالى ظهور الرب للمريمات (مت 9:28و10، مر 9:16، يو 14:20-17)، ولبطرس (لو 34:24، 1كو 5:15)، ولتلميذَي عمواس (مر 12:16، لو 13:24-35)، وللتلاميذ مجتمعين يوم القيامة والأحد التالي (لو 36:24-43، يو 19:20-29)، وللسبعة على بحيرة طبرية (يو 21)، ثم لخمسمائة أخ دفعة واحدة، وبعد ذلك ليعقوب ثم للرسل أجمعين (وقت الصعود) (1كو 6:15و7). وربما لم يسجِّل البشيرون كل لقاءات الرب خلال الأربعين يوماً، والقديس يوحنا في ختام إنجيله يُنوِّه أنَّ «آيات أُخَر كثيرة صنع يسوع قدَّام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب» (يو 30:20)، وأنَّ «أشياء أُخَر كثيرة صنعها يسوع، إنْ كُتبت واحدة واحدة، فلستُ أظن أن العالم نفسه يَسَع الكتب المكتوبة.» (يو 25:21)

 

2 - تجديد الإيمان ومنح السلام:

 

كانت المحنة أقوى من مستوى إيمان التلاميذ، فانهار تحتها. ولما توالت الأخبار الأولى للقيامة لم يكن صداها غير الشك والحيرة. وحتى لما دخل إليهم الرب في عُقر دارهم، ظنوه روحاً. لذلك كان من مهام الرب، إذن، جَبر هذا الإيمان المتصدِّع وإعادة بنائه وتثبيته وتعميقه، كي يصير يقيناً قادراً على الصمود أمام العواصف العاتية القادمة، وليكون الرسل القدوة لكل الكنيسة في حَمْل الصليب والسير وراء المخلِّص.

وبينما كان حضور الرب بهيئته الإنسانية الظاهرة «جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي» (لو 39:24)، ولقاؤه المتكرر بتلاميذه، تشديداً عملياً لإيمانهم بالقيامة؛ إلاَّ أنه جعل يُذكِّرهم بما قاله لهم من قبل، وبما جاء في الكتب فاتحاً ذهنهم ليفهموا المكتوب عنه، ليصير الإيمان مُدعماً بكلمة الله: «وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلَّمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث» (لو 44:24-46). وفي هذا المجال، ربما أشار الرب إلى هذه النبوات والأحداث: «نسل المرأة يسحق رأس الحية» (تك 15:3)، «ها العذراء تحبل وتلد ابناً...» (إش 14:7)، تقديم إسحق ذبيحة (تك 22)، الفصح وذبائح العهد القديم، الحية النحاسية (عد 9:21)، مزمور 22 الذي يبدأ: «إلهي إلهي لماذا تركتني... ثقبوا يديَّ ورجليَّ... يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (مز 1:22و16و18)، «في عطشي يسقونني خلاً» (مز 21:69)، «في يدك أستودع روحي» (مز 5:31)، الأصحاح 53 من سفر إشعياء وضمنه: «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا... ظُلم أما هو فتذلَّل ولم يفتح فاه... وأُحْصِيَ مع أَثَمَة» (إش 5:53و7و12)، ونبوات دانيال (دا 34:2و35)، وعاموس (عا 11:9)، وغيرها.

ومع إنهاض الإيمان، كان أيضاً نزع الخوف والحزن اللذين سادا جماعة الرب: «فجزعوا وخافوا... فقال لهم (الرب): ما بالكم مُضطربين» (لو 37:24و38)، «فخرجن (النسوة) سريعاً وهربن من القبر، لأن الرِّعدة والحَيْرة أخذتاهُنَّ. ولم يَقُلنَ لأحدٍ شيئاً لأنهُنَّ كُنَّ خائفات» (مر 8:16)، «فذهبت هذه (المجدلية) وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون» (مر 10:16). ومن هنا كانت هذه الهبة العظمى التي أفاضها الرب عليهم كلما التقى بهم: «سلامٌ لكما... لا تخافا» (مت 9:28و10)، «وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: سلامٌ لكم» (لو 36:24)، «فقال لهم يسوع أيضاً: سلامٌ لكم» (يو 21:20). فلما نالوا السلام، انقشع الخوف، وصارت الكرازة بكل مجاهرة.

 

3 - التعليم عن الملكوت:

 

في بداية إرسالية التلاميذ، قال الرب: «أحمدك أيها الآب ربُّ السماء والأرض، لأنك أخفيتَ هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (مت 25:11، لو 21:10). وعندما سأل التلاميذ الربَّ، بعد أن ذكر للجموع مَثَل الزارع، لماذا يتكلَّم بالأمثال، قال لهم: «لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأما أولئك فلم يُعْطَ. فإنَّ مَنْ له سيُعطى ويُزاد، وأما مَنْ ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه... ولكن طوبى لعيونكم لأنها تُبصر، ولآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم: إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتَهَوْا أن يَرَوْا ما أنتم ترون ولم يَرَوْا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا.» (مت 11:13و12و16و17، لو 23:10و24)

وقد واصل الرب بعد قيامته دور المعلم في إنارة معرفة تلاميذه بملكوت السموات وأسرار الحياة الأبدية واستعلان الخلاص الأخير. كما أشار إلى ذلك معلِّمنا القديس لوقا في بداية سفر الأعمال: «الذين أراهم نفسه حيًّا ببراهين كثيرة، بعد ما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً، ويتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت الله» (أع 3:1)، وما ذكره القديس بطرس في مستهل رسالته الأولى: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حيّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظٌ في السموات لأجلكم، أنتم الذين بقوة الله محروسون بـإيمـانٍ، لخلاصٍ مُستَعَدٍّ أن يُعلَن في الزمان الأخير» (1بط 3:1-5)، وما كتبه معلِّمنا القديس يوحنا أيضاً في صدر رسالته الأولى: «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإنَّ الحياة أُظْهِرَتْ، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به.» (1يو 1:1-3)

فبعد الإيمان والسلام، كانت إنارة الذهن بالملكوت والحياة الأبدية، وأسرار لم يُكشف عنها لأحدٍ من قبل. ومن أجلها طوَّب الرب عيون وآذان تلاميذه البسطاء بما انفتح أمامهم من معرفة لم تُتَحْ حتى للأنبياء الكبار. وكان الجو السائد بعد قيامة الرب مناسباً تماماً للحديث عن أسرار الملكوت.

 

4 - الكرازة بالخلاص للعالم، والوعد بالروح القدس:

 

تختتم ثلاثة أناجيل بشارتها بأمر الرب للتلاميذ للانطلاق بالكرازة للخليقة كلها: «فتقدم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفِع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به» (مت 18:28-20)، «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. مَنْ آمن واعتمد خَلَصَ، ومَنْ لم يؤمن يُدَنْ» (مر 15:16و16)، «وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مُبتدأً من أورشليم. وأنتم شهودٌ لذلك.» (لو 47:24و48)

فها هو الرب يُعيد تلاميذه إلى طريق الخدمة، ويُذكِّرهم بأن إرساليتهم لم تنتهِ؛ بل هي ستبدأ في حقيقتها بعد الصليب والموت والقيامة. كما يَعِد الرب تلاميذه بقوة من الأعالي أي حلول الروح القدس عليهم، ومعموديتهم: «وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلْبَسوا قوة من الأعالي» (لو 49:24)، «وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم، بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني... أما أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس... لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.» (أع 4:1و5و8)

فالرب سيُفارقهم بالجسد، ولكن ما أشار إليه ليلة آلامه من إرسال المعزِّي (يو 16:14و17؛ 26:15؛ 7:16-15)؛ يؤكِّده لهم الآن قبل ارتفاعه ليكون القوة الموجِّهة والمؤازرة للكرازة، والواهبة للإيمان، والمُعزية ساعة الشدَّة والآلام الآتية.

 

5 - مَنْح البركة، والحضور الدائم:

 

رئيس الكهنة العظيم، وهو يختم وجوده بالجسد على الأرض صاعداً إلى مجده، يمنح كنيسته البركة التي لا يُستقصَى غناها: «ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يُباركهم، انفرد عنهم وأُصْعِدَ إلى السماء» (لو 50:24و51). وكما فعل سابقاً مع الأطفال الذين «احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم» (مت 15:19، مر 16:10)؛ فعل هكذا مع “الأطفال” الجُدُد، تلاميذه البسطاء (مت 25:11، لو 21:10). وفوق هذا فهو يَعِدهم - كما يَعِد الكنيسة كلها - بمساندته ووقوفه معهم إلى النهاية: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 20:28)، فصارت كلماته هذه أنشودة عذبة تتغنى بها السماء، ووعداً أبدياً لكل مؤمن.

 

6 - إعادة الاعتبار إلى بطرس أمام الكنيسة:

 

كان لبطرس منزلته عند الرب، فهو أول مَنْ قَبِلَ الدعوة، وهو المتقدِّم بين التلاميذ، والمِقدام الذي يُعلن إيمانه بـ «المسيح ابن الله الحي» (مت 16:16، مر 29:8، لو 20:9)، حتى امتدحه الرب وأشار إلى دوره في تأسيس الكنيسة (مت 17:16-19). وهو أحد الثلاثة القريبين إلى الرب، فكان مع يعقوب ويوحنا عند التجلِّي (مت 1:17، مر 2:9، لو 28:9)، وفي البستان (مت 37:26، مر 33:14). وقد صاحَب الحوارات الكثيرة مع الرب، وظل يتبع الرب في ساعاته الأخيرة قبل الصليب، وقطع أُذن عبد رئيس الكهنة (مت 51:26، مر 47:14، لو 50:22، يو 10:18). ولكن كبوته التي كسرت قلبه، هي إنكاره السيد أمام خدم رئيس الكهنة رغم تحذير الرب له. وظلت هذه السقطة - التي أبكته بمرارة - تؤلمه وتشوِّه مسيرته الطويلة الأمينة مع الرب.

 

ولكن محبة الرب له ظلت دائمة، ومكانته لم تتغير؛ بل لقد أفرد له الرب اهتماماً خاصاً، رغم انتهاره له في أحيانٍ قليلة. فقبل أن يُحذِّره من إنكاره له (لو 34:22)، أبقى له اعتباره وتقدُّمه بين التلاميذ، قائلاً له ليلة آلامه: «سمعان سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة! ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يَفْنَى إيمانك. وأنت متى رجعتَ ثبِّتْ إخوتك.» (لو 31:22و32)

 

وقد حرص الرب بعد قيامته أن يُظْهِر لبطرس محبته، فها هو الملاك يبلِّغ بطرس رسالة خاصة عن طريـق المجدلية والمريمات: «لكـن اذهبن وقُلْن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك تَرَوْنه» (مر 7:16)، كما ظهر الرب لبطرس يوم  القيامة (لو 34:24، 1كو 5:15) قبل أن يلتقي بالتلاميذ. ثم كان هذا اللقاء الخاص مع التلاميذ السبعة على بحيرة طبرية، وبطرس وزملاؤه يعودون إلى الصيد، ومن جديد يُظْهِر لهم الرب سلطانه ويكرر معجزة الصيد الأولى التي جعلتهم يتبعونه ليصيروا صيادي الناس، وهذه المرة لكي يبشِّروا العالم كله؛ ثم يجعلها الرب فرصة لحديثٍ مع بطرس لمس فيه قلبه بقوة وهو يدعوه دعوة ثلاثية لرعاية خرافه، ليمحو من قلبه الشعور بذنب إنكاره المثلث السابق، ويكرمه في نهايته بأن يقبل شهادته (مصلوباً) من أجله في نهاية المطاف، مما شجَّع بطرس أن يتساءل عن مصير زميله يوحنا، ولكن الرب - بكل رقة - يدعوه ألاَّ ينشغل إلاَّ بشيء واحد: “أن يتبعه” (يو 15:21-22).

 

وقد أتمَّ الرب مهامه الأخيرة كلها بنجاح: تبدد الشكّ والحيرة والخوف والحزن والنواح من حياة جماعة الرب، ووهبتهم قيامة الرب الساطعة قوة للشهادة وللكرازة بالخلاص، وسلوكاً بالإيمان لا بالعيان، وقلباً مُفعماً بالسلام والفرح، ويقيناً بعدم مفارقة الرب لهم رغم صعوده أمام أعينهم، يسندهم وعده بأن يكون معهم كل الأيام. وفي انتظار الوعد بالقوة العلوية، كان الجميع معاً يواظبون على الصلاة والطلبة والتسبيح استعدادًا للإرسالية العُظمى، وانطلاقاً لتبشير العالم بالخلاص الثمين (لو 50:24-53، أع 12:1-14).

دكتور جميل نجيب سليمان