|
|
عن التديُّن المسيحي:
التديُّن المضاد
يأتي هذا الحديث ونحن نستعيد ذِكرى الشهداء، هؤلاء الذين لم يقدِّموا فقط قلبهم وفكرهم وقدرتهم ونفسهم للرب؛ وإنما قدَّموا كل حياتهم. وكان سفك دمهم نهاية للآلام وتتويجاً لجهادهم ونوالهم إكليل الشهادة والبر. وربما كان مناسباً أن نراجع مستوى جهادنا وحياتنا المسيحية قياساً على هذه المحبة العملية حتى قطرة الدم الأخيرة.
يبدو من غير المستحسن أن نستخدم كلمة “الدِّين” أو “الديانة” عند الحديث عن الحياة المسيحية. فهذه الكلمة لم تَرِد في الكتاب إلاَّ في موضعين. ففي رسالته إلى أهل غلاطية يكتب القديس بولس: «فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً في “الديانة” اليهودية Judaism، أني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأُتلفها. وكنت أتقدَّم في “الديانة” اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي، إذ كنتُ أوفر غيرة في تقليدات آبائي» (غل 13:1و14)، وهو يشير هنا إلى انتمائه الأول وتمسُّكه بالناموس. ومعلِّمنا يعقوب الرسول يكتب في رسالته: «الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحِفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم» (يع 27:1)، وهو هنا يقصد الممارسة الدينية الصحيحة أو المثالية.
فالمسيحية ليست دِيناً من الأديان جاء بعد “الديانة اليهودية”، فهذا المفهوم ليس له جذور في الكتاب. فما يذكره “العهد القديم” هو علاقة الله بشعب رعاه بالشريعة والآباء لحفظ الإيمان إلى أن يأتي المسيَّا بـ “العهد الجديد”؛ أي الخلاص، وإرسال الروح القدس، وتأسيس الكنيسة، والحياة الجديدة، حتى المجيء الثاني للرب.
وحتى كلمة “المسيحية” لا يذكرها الكتاب. وعندما دُعِيَ التلاميذ مسيحيين لأول مرة في أنطاكية (أع 26:11)، كان ذلك لنسبتهم إلى شخص المسيح كمؤمنين به. وبالتالي تنتسب كلمة “المسيحية” إلى المسيح، وتُعبِّر عن رسالة الخلاص والعهد الجديد ونوال الحياة الأبدية.
ونحن نستعمل كلمة “التديُّن المسيحي” هنا تجاوزاً، ونقصد الحياة المسيحية أي الحياة في المسيح، وتمييزها عن أنماط عديدة زائفة تحوم حولها أو تقترب من أحد جوانبها أو تتصل بها بشكلٍ ما دون أن تعبِّر عن جوهرها النقي الأصيل، أي أن ترتبط بالمخلِّص ارتباطاً شخصياً. فكل الديانات مستقلة عن مؤسسيها (أي يمكن اتِّباعها وممارسة التزاماتها دون حاجة إلى مؤسسيها)؛ أما الحياة المسيحية فهي لا تُختبر إلاَّ بالمسيح. والتديُّن المسيحي رغم أنه يحتوي على عبادات وممارسات تتشابه في الظاهر مع ما في الأديان، ولكنه يختلف في جوهره. إنه تعبيرٌ عن إيمان بشخص المسيح «رئيس الإيمان ومُكمِّله» (عب 2:12)، الذي «بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه» (عب 6:11). وإذا خلا تديُّننا أو أي من جوانبه من المسيح، فَقَدَ معناه وصار ضرباً من النشاط الجسدي الذي يهدف إلى إتمام الفرائض وإرضاء الذات أو الناس، ولا يختلف إذن عن أي عبادة حتى الوثنية منها.
وقد ساق المسيح مَثَل الفريسي والعشار (لو 9:18-14) لكي يكشف أنماطاً من التديُّن خادعة في ظاهرها، ولكنها أعمال ميتة غير مقبولة، ونشاط ذاتي خالٍ من الإيمان والحب تدفع إليه العادة، أو الحاجة (للخروج من تجربة أو ضيقة)، أو المنفعة (كطلب الصحة أو النجاح)، أو غيرها من الظروف الطارئة والضغوط المختلفة؛ وكلها - سواء وعت النفس أم لم تَعِ - ليست مُقدَّمة لله الذي تدَّعي أنها تؤمن به، وإنما لإله مجهول، أو - في الحقيقة - للذات الشاعرة ببرها.
ولخطورة الأمر على الحياة الروحية وإمكان تزييفها، سنحاول هنا أن نعرض لبعض ألوان التديُّن المضاد (أو المناوئ للإيمان) رغم اتصاله بالدِّين بشكلٍ ما، وكيف نكتشفه ونتخلص منه لتنقية حياتنا الإيمانية من الشوائب أو تعديل مسارها، بحيث تقصد في كل نشاط لها وجه المسيح.
1. التديُّن الشكلي:
ويمكن أن يُطلق عليه أيضاً التديُّن السطحي أو الظاهري (المظهري) أو الحرفي، وهذا أكثر الأنواع شيوعاً في أوساط المتدينين. وهو يُحوِّل الحياة الروحية إلى مجموعة من الممارسات يصير إتمامها هدفاً في حدِّ ذاته، وهي تُؤدَّى كنشاطٍ جسدي بحت، ربما استغرق وقتاً وجهداً، ولكن الروح غابت: فالصلاة وقراءة الكتاب بالشفاه وبأداءٍ آلي مستقل عن الذهن فضلاً عن الروح، أي بدون وعي أو فهم: «هذا الشعب يُكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً» (مر 6:7)؛ وفي الصوم ينشغل المتديِّن الشكلي بنوع الطعام دون أن يشغله نسكه وصدق توبته وضبط حواسه وحراسة صلواته؛ والاعتراف يتم بدون ندامة أو توبة؛ والتقدُّم للتناول كما لقومٍ عادة ومهما كانت درجة استعداده ودون تغيير للحياة.
وتتميم هذه الفرائض يُحقِّق رِضا المتدين الشكلي عن ذاته، وربما نظر إلى الآخرين منتقداً: «... أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة.» (لو 11:18)
وفي أيام المسيح كان الكتبة والفرِّيسيون هم عماد هذا اللون من التديُّن. فرغم أنهم المشتغلون بالدين ونصوصه، ومنهم تؤخذ الشريعة والفتوى، لكن تدريجياً صار الدين حرفتهم لا حياتهم، وحدث الانفصال بين ما يقولونه وما يفعلونه (مت 3:23)؛ فهُم «يحزمون أحمالاً ثقيلة عَسِرة الحَمْل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يُحرِّكوها بإصبعهم» (مت 4:23)، وهم حرفيون مهتمون بالصغائر ومتحلِّلون من جوهر الناموس: «تُعشِّرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان» (مت 23:23)، وهم مظهريون: «وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس... ويحبون المتَّكأ الأول... ولِعلَّة تطيلون صلواتكم» (مت 5:23و6و14)؛ وبانفصال الظاهر عن الباطن وانزلاق الحياة الباطنية إلى الفساد، صاروا نموذجاً للرياء، فقال عنهم الرب: «تُشبهون قبوراً مُبيَّضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضاً: من خارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً.» (مت 27:23و28)
ولأن الرياء كان آفة الحياة الروحية زمان المسيح، وصارت العبادة مُقدَّمة لإرضاء الناس، فقد حذَّر الرب منه في توجيهاته عن العبادة: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدَّام الناس... ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين... ادخل إلى مخدعك وأغلق بابك... فمتى صُمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائماً، بل لأبيك الذي في الخفاء.» (مت 1:6و5و6 و17و18)
وهكذا صارت “الفرِّيسية” عنواناً لهذه الأنماط الشكلية من التديُّن والمتدينين الذين يقول عنهم الرب: «ليس كل مَنْ يقول لي: يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات؛ بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبَّأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أُصرِّح لهم: إني لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم!» (مت 21:7-23)
ويقول الكتاب عن السالكين بالحرف: «... أن الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي» (2كو 6:3)، وأن الأداء الآلي للعبادة بهدف إتمامها بأية صورة هو جهد باطل. فالله لا يهمه كمّ الممارسات، وإنما بأي روح تتمّ. وصلاة العشار القصيرة الممتلئة بالندم وطلب الرحمة قَبِلها الله عن صلاة الفرِّيسي التي يُغلِّفها البر الذاتي والإحساس بالرضا لمجرد أداء الفروض.
وعادة ينشأ التدين الشكلي في وسط يحفل بالدين ويستنكر الانحراف (ولو ظاهرياً). فعندما يبلغ الإنسان سنّ الشباب لا يستطيع أن يُجاهر بالخطية إرضاءً للعائلة أو لتفادي اللوم أو تغيُّر النظرة إليه؛ ولكن يظل ميله إليها كامناً أو مكبوتاً في قلبه، وأقوى من أن يدعه يسلِّم حياته إلى الله بالتوبة والجهاد من أجل حياة القداسة، ويصير اللجوء إلى التدين الظاهري الحل لهذه الإشكالية.
وقد يبدأ المؤمن بداية صحيحة، اختبر فيها حلاوة العشرة مع الله، ومارَس التوبة زمناً؛ ثم جُرِّب بشهوة الجسد أو محبة المال أو تعظُّم المعيشة، أو الانهيار تحت وطأة الهموم، أو الانزلاق إلى معاشرات رديئة أفسدت حياته. ولأنه لا يستطيع الانسلاخ من سلوكه الديني الذي عرفه عنه الناس والكنيسة، فإنه يواصل ممارساته بصورة شكلية محتفظاً بمظهره في المجتمع الكنسي، محترساً ألاَّ يصدر عنه ما يشي بخيانته. ولكن حتى إن خفيت الخيانة عن الناس فإن «كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا.» (عب 13:4)
ربما كان التدين الشكلي أخطر من الانحراف الكامل وأكثر منه شيوعاً. فالبُعد الصريح عن الله يحمل في طياته الحاجة إلى الله، وقد يأتي الوقت وتحدث المواجهة وتتم التوبة (المرأة الخاطئة كمَثَل - لو 36:7-50). أما التدين الشكلي - إذ يتخلص من تبعية المسيح ونفقتها العالية - فإنه يمنح لصاحبه إحساساً خادعاً بالبر وتخديراً للضمير، وتتحوَّل العبادة المظهرية إلى وسيلة لتجنُّب اللقاء الشخصي بالمسيح. ومن هنا فإنه يرى أن دعوات التوبة ليست موجَّهة إليه، وإنما إلى “الخطاة”، وهو ليس واحداً منهم. وقد أدان المسيح الفرِّيسي وبيَّن أن كل جهاده باطل، بينما توبة أكبر الخطاة وشعوره بحاجته إلى الله وطلب الرحمة كفيلة بأن تحنن قلب الله «الذي يُبرِّر الفاجر» (رو 5:4) كي يغفر له خطيته ويُطهِّره من كل إثم.
وقد يسمح الله لمثل هؤلاء الأبرار في أعين أنفسهم بتجربة كبرى تكشف لهم عن خواء حياتهم من الإيمان وتقودهم إلى تغيير نهجهم وتوبتهم واتضاعهم ودخولهم إلى العمق لتذوُّق الطعم الحقيقي لحياة القداسة، حيث يُستخدم سيف الروح وسائر أسلحة الحرب المقدسة (أف 13:6-18).
وبالنسبة للمؤمنين الذين انحرفوا إلى الرياء تحت ضغط الجسد، فستظل نفوسهم مرهقة قلقة بفعل تبكيت الروح القدس، حتى تنهض من كبوتها وتفر من الشهوة، وبالتوبة تعود كي ترتاح في الله الذي كانت قد تغرَّبت عنه.
2. التديُّن الطائفي:
في هذا التدين ينفصل الشعب عن الكنيسة ليُشكِّل طائفة أي تكتُّلاً اجتماعياً، ويترتب عليه أن يصير الانتماء المسيحي أمراً اجتماعياً لا إيمانياً، ويستخدم “الدين” لخدمة مصالح الطائفة لا لخدمة الكنيسة. وفي التدين الطائفي يختلط الديني بالقومي، وهدف الحياة الأبدية بالمطالب الأرضية والحقوق الاجتماعية؛ ويُنظر إلى الأسقف والكاهن لا كممثل للمسيح وراعٍ للكنيسة، وإنما كممثل للطائفة يحمي مصالحها الزمنية. وهكذا يتوارى الإيمان ويختنق، وينتعش النفاق والتظاهر، وتصير العبادة فروضاً شكلية تؤدَّى بلا روح.
وأشهر الأمثلة في هذا المجال الحروب الصليبية التي امتدت ما يقرب من قرنين وتستَّرت بالصليب لتغطية الأطماع والمصالح. كما أن الصهيونية تُسخِّر آيات الكتاب لتحقيق أهدافها للاحتلال، وتستخدم في سبيل ذلك كل الأسلحة المضادة للقانون الإلهي. وفي أيرلندا الشمالية لا تزال الحرب مشتعلة بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم يستطع اشتراكهم في المسيح الواحد والوطن الواحد أن يوقف سيل الدم. والحرب الطائفية في لبنان التي استمرت 15 عاماً نموذج آخر لاستغلال الدين ظاهرياً في الدفاع عن الإيمان والمقدسات، وفعلياً للذود عن المصالح والأنصبة.
التدين الطائفي ضار جداً وهو في حقيقته عدو لله والإيمان والكنيسة، وتغذيه الأنانية والبغضة والتعصُّب الذي هو إنكار صريح لوصية محبة القريب. وهو يقسِّي القلب ويبرر حتى القتل، فهو الذي جعل اليهود لا يحتملون كلمات استفانوس، بل: «حنقوا بقلوبهم وصرُّوا بأسنانهم عليه... وأخرجوه خارج المدينة ورجموه» (أع 54:7و58)، وهو الذي جعل «شاول راضياً بقتله» (أع 1:8). ومن ناحية أخرى، فالطائفية والتطرُّف والتعصُّب تؤجِّج عوامل الانقسام بإثارة تعصُّب الآخرين على مستوى سائر الطوائف وعلى مستوى الوطن.
إن علاج الطائفية هو في العودة إلى الإيمان الحقيقي الذي يجعل من الله وكلمته المُعلنة في شخص يسوع المسيح محور حياتنا الوحيد، وتصير العبادة لله وحده لا للأهواء والمصالح التي مآلها إلى التراب، والعودة إلى الانفتاح بالحب على كل البشر بديلاً عن استئصالهم لتبقى الطائفية وحدها، وأن يحل الاتضاع محل الإحساس بالتفوُّق والتعالي وامتلاك الحق المطلق.
3. تديُّن الغيرة الجسدية أو التديُّن الطائش:
الغيرة يمكن أن تكون فضيلة، فالرب غار على اسمه (حز 25:39)، وعلى بيته: «غيرة بيتك أكلتني» (مز 9:69، يو 17:2)، وبولس الرسول يقول: «حسنة هي الغيرة في الحُسنى.» (غل 18:4) ولكن الغيرة الجسدية (أي التي بحسب الجسد) (غل 20:5، يع 14:3) تُحرِّكها الأهواء والذات، وهي كالطائفية يدفعها التعصُّب وضيق الأفق إلى اللجوء إلى العنف والقوة (حتى المسلحة) للدفاع عن الدين. وأيام المسيح دخل الرب قرية للسامريين فلم يقبلوه، فطلب ابنا زبدي من الرب أن تنزل نار من السماء لتفني القرية، فانتهرهما السيد قائلاً: «... لستما تعلمان من أي روح أنتما! لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلِك أنفس الناس، بل ليُخلِّص» (لو 51:9-56). وفي الخمسينيات من القرن الماضي لجأ بعض المتحمسين الطائشين إلى اختطاف البطريرك أنبا يوساب الثاني بالقوة من مقره لعدم رضاهم عن أدائه، وهدَّدوا سلام الكنيسة.
والغيرة الجسدية تُجسِّم خطايا الآخرين وتتغافل عن الخطايا الشخصية، فالذين أمسكوا بالحجارة ليرجموا الزانية كانوا كلهم خطاة: «مبتدئين من الشيوخ» (يو 9:8)، والرب هو الذي كشف زيف غيرتهم.
الغيرة الجسدية والاندفاع والعنف لا تجتمع مع الحياة المسيحية. فالرب لم يحمل سلاحاً، بل “ولا كيساً ولا مزوداً”. وعندما ضرب بطرس بالسيف عبد رئيس الكهنة دفاعاً عن السيد، انتهره قائلاً: «رُدَّ سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون!» (مت 52:26)
المسيحيون المدَّعون وحدهم هم الذين يلجأون إلى العنف والانتقام، وربما إلى القتل، مدفوعين بغيرة طائشة حمقاء ينسبونها كذباً إلى الدين. أما المؤمنون الحقيقيون فهم مستعدون أن يضعوا حياتهم من أجل الآخر، لا أن يرفعوا عليه السلاح. وهم قد يحتجُّون أو يعترضون، ولكن دون أن يتجاوزوا وصية المحبة بأي حال: «اغضبوا ولا تخطئوا.» (أف 26:4)
4. التدين الاجتماعي:
أي يصير الدين عند البعض بمثابة الرباط الذي يضم الجماعة، لا لحساب الله والحياة الأبدية، وإنما لحساب الحياة الحاضرة وإشباع الحاجة الاجتماعية إلى الآخر. فتصبح الكنيسة مكاناً للِّقاء، لا مع الله، وإنما مع الناس؛ أي تتحوَّل إلى ما يشبه النادي الاجتماعي. ويُستفاد هنا برحلات الكنيسة وحفلاتها ومبارياتها الرياضية كوسيلة للتسلية والتعارُف.
وهذا اللون من التدين أوضح ما يكون في كنائسنا في المهجر، حيث تضطر الغربة الكثيرين (حتى مِمَّن لم يختبروا الإيمان) إلى اللجوء إلى الكنيسة للقاء أقرانهم في “الوطن” و“الدين”. وتصير العبادة “نشاطاً جانبياً”. والبعض قد يكتفي من الكنيسة بساعتها الاجتماعية التي تعقب القداس.
أن تصير الكنيسة صدراً حانياً للغرباء ومجالاً للقاء الأحباء، فهذا مقبول؛ أما أن يصير هذا هو دورها فقط، فهذا اختزالٌ مُهين لوظيفتها. فالكنيسة هي بيت الله وميناء الخلاص وحصن التوبة وساحة عُرس الخروف، حيث مائدة الرب التي تجتمع فيها السماء مع الأرض. وعلى رعاة الكنيسة أن يخدموا هؤلاء “الاجتماعيين” الواقفين بالباب، لكي يتقدموا لاختبار حياة أعظم كثيراً من مجرد التسلية ولقاء الأصدقاء: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مز 8:34)، حيث يسعون للقاء المخلِّص المنتظِر عودتهم، وربما تعلَّموا أن يجلسوا عند قدميه لسماع كلمة الحياة كما كانت تفعل مريم التي اختارت النصيب الصالح (لو 42:10).
5. التديُّن الأخلاقي:
متدينو هذا النمط عندهم الدين منظومة من الأخلاقيات. لقد استغنوا عن المسيح وصليبه، واستبدلوا بهما الجدية والأمانة والنظام والصدق والذوق والاجتهاد في العمل وإتقانه، والرحمة بالحيوان والمحتاجين، يُضاف إلى ذلك رِضا عظيم عن النفس واعتداد بالذات وتعالي على “الخطاة”.
في الغرب تحوَّلت الحياة المسيحية إلى القيم المذكورة في الحياة اليومية (أي: الجدية والأمانة والنظام والصدق... إلخ) - مع بقاء جوانب الحياة الجسدية - لتكون هي السائدة؛ أما الحق والإيمان والعبادة ومعرفة كلمة الله، فقد تراجعت من الحياة العامة لتنحصر داخل جدران الكنائس.
إن مشكلة الأخلاقيين أن لهم صورة التقوى، ولكنهم غارقون في ذاتيتهم بما يحرمهم من التبعية الحقيقية لشخص المسيح ومحبته، وإفراز الأخلاقيات المسيحية كثمار طبيعية لحياة حسب الروح (غل 22:5و23). ومعلِّمنا بولس يؤكِّد: «إن أطعمت كل أموالي، وإن سلَّمت جسدي حتى أَحْتَرِق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً.» (1كو 3:13)
الحياة المسيحية أكبر وأشمل وأعظم من مجموعة أخلاق قد ترضي صاحبها، ولكن لن تؤدِّي به إلى الحياة الأبدية. الحياة المسيحية دعوة للخلاص من الخطية واقتناء الحياة الجديدة التي يثمرها الروح القدس في المؤمنين. إن التسامي بالحياة المسيحية لتصير الحياة المستحيلة غير العملية، أو اختزالها في منظومة أخلاقية على مستوى الحياة الحاضرة فقط، هو تطرُّف لا يؤدِّي إلاَّ إلى حرمان الإنسان من التمتُّع بالخلاص، وحرمان العالم من «نور العالم» (يو 12:8). (بقية المقال في العدد القادم) دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Sunday, 20 March 2011 22:02 |
