Home المقالات أعظم من يونان
Print

 

عن التديُّن المسيحي:

 

التديُّن المضاد

- 2 -

هذا هو الجزء الثاني من المقال الذي نُشر جزؤه الأول في العدد الماضي (سبتمبر 2001)، وتناول عددًا من أنماط التديُّن المضاد للإيمان المسيحي. ويُستكمل في هذا المقال باقي هذه الأنماط السلبية كي نميِّز الوجه المشرق للحياة الإيمانية المسيحية النقية التي تختلف جذرياً عن كل هذه الألوان من التدين الزائف الذي ينتسب إليها زوراً.

 

6. التديُّن العقلي:

 

وهو النهج الذي يحكم فيه الإنسان المتدين الموهوب فكرياً على الأمور الإيمانية بالعقل وحده مستخدماً طرق التحليل والنقد والتفكير العملي البحت. الدين عنده هو إشباع العقل وإخضاع الإيمانيات للمنهج العقلي، فيقبل ما يراه معقولاً ويرفض ما يجاوز المنطق أو حدود الحواس (مثل المعجزات). ويتميَّز المتدينون العقليون أنهم متزنون جامدون، يرفضون مغامرة الإيمان، وبالتالي فهم يقاومون التأثُّر بنداء التوبة، ولا يرون ضرورة لحَمْل الصليب أو قبول الاضطهاد بأي حال.

 

من المؤكَّد أن هذا المنهج لن يوصِّل إلى الله. فالإيمان ليس ضد العقل وإنما فوقه. والعقل نعمة إلهية ولكن له حدوده: «فإني أقول بالنعمة المعطاة لي، لكل مَنْ هو بينكم: أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التعقُّل، كما قَسَمَ الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رو 3:12). والكتاب لا يمتدح البسطاء لبساطتهم والجهال لجهلهم، وإنما لقبولهم السهل لشخص المسيح دون انتقاد. ولكن الدراسة والبحث مطلوبان «فتشوا الكتب» (يو 39:5)، على أن يقترنا بروح الصلاة وطلب إرشاد الروح القدس: «لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله» (1كو 10:2)، والإنسان الطبيعي لا يقدر أن يعرف ما لروح الله «لأنه إنما يُحكم فيه روحياً.» (1كو 14:2)

 

ونحن مدينون للقديسين العلماء الذين أثـْروا حياتنا بكتاباتهم وتفسيراتهم لكلمة الله، وهي نتاج العقل المتوشِّح بالروح القدس، وفي مقدمتهم القديس بولس وآباء القرون الأولى: إيرينيئوس، وكليمندس، وأوريجانوس، وأثناسيوس، وكيرلس، وباسيليوس، وإغريغوريوس، وذهبي الفم، وأغسطينوس، وغيرهم. وهم الذين تصدُّوا للمبتدعين واستخدموا كل قدراتهم الروحية والجدلية لحماية الإيمان.

 

ولكن البعض يفتش في كلمة الله لا لمعرفة الحق أو استنارة الذهن أو للاتحاد بالله؛ وإنما ليُقارن ويُقابل ويُحلل، وربما للردّ على من يختلفون معه في المذهب أو الدين. إن عقله مشغول بالدين والكلمة؛ أما القلب والمشاعر فهي مستقلة ومحجوبة بالإرادة عن عمل الروح القدس. هؤلاء ينطبق عليهم قول معلمنا القديس بولس في بداية فصله الشهير عن المحبة: «إن كانت لي نبوَّة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم... ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً.» (1كو 2:13)

 

وجزء من الحياة الفرِّيسية كان دراسةً وعلماً، ولكنهم لم يلمسوا وصية بإحدى أصابعهم. فهُم هنا للفتوى والتشريع والتعليم، وأيضاً لإنزال العقاب بالمخالفين للشريعة، دون أن يكونوا تلاميذ مخلصين للشريعة، لهذا حقَّت عليهم الويلات (مت 23، لو 11).

 

وفي العالم الغربي انفصل علم اللاهوت عن الحياة الروحية، وصار من الممكن أن يكون أستاذ الكتاب المقدس عالماً كبيراً في تخصُّصه في النواحي التفسيرية ولغات الكتاب الأصلية واللاهوت المقارن وغيرها، دون أن يحفظ الوصايا التي يحللها علمياً.

 

هذا نوع من الاهتمام بالدين من زاوية واحدة، وهو اهتمام مطلوب، ولكن يأتينا صوت الله منبِّهاً: «كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك» (مت 23:23، لو 42:11). و”تلك“ هنا هي الحياة في المسيح.

 

7. التديُّن العاطفي:

 

هذا أيضاً لون من التديُّن الجزئي، وأصحابه طيبون ذوو عواطف رقيقة، ويسهل التأثير عليهم. فهم يحبون الجو الديني وحضور الكنيسة وسماع كلمة الله. وهم متجاوبون وكثيراً ما يُعجبون بالعظات، ولكن سرعان ما يفقدون تأثيرها. والقصص والمشاهد التي تلمس عواطفهم قد تستدر دموعهم، ولكن ما أسهل أن تسقط من ذاكرتهم. ومعجزات القديسين تستولي على ألبابهم، ولكن هذا الإعجاب والتأثر لا يدوم، وهكذا عواطف دون نمو، وتأثـُّر لا يمتد إلى خطوات إيجابية نحو تسليم الحياة، وسماع لكلمات الكتاب دون أن تُحفظ في القلب وتُختبر. وها هو الشاب الغني يأتي مندفعاً بعاطفته يسأل الرب: ماذا يفعل ليرث الحياة الأبدية؟ فلما طلب منه المسيح أن يبيع كل أملاكه ويعطيها للفقراء، لم يحتمل وتراجع ومضى (انظر مت 16:19-23).

 

فالعواطف تشهد على القلب المستعد، والدموع هي سلاح القديسين. ولكن بدون خضوع الإرادة وتسليم الحياة تصير مثل هذه الاستجابات كفقاعات الهواء، مآلها أن تتلاشى. وكما أن الزرع دون عمق أرض ينمو سـريعاً، ولكنه يحترق تحت وطأة الشمس الشديدة (مت 5:13و6و20و21)؛ هكذا العواطف وحدها لن تصمد للتجارب. وربما اكتشف الإنسان أنه إن لم يمتلك الرب كل الكيان، فلا نجاة.

 

8. التديُّن الطقسي:

 

هذا لون شائع في الكنائس التقليدية التي لا تستغني فيها العبادة عن الطقوس. وهذه ليست شكليات، وإنما عنصر مُكمِّل للصلوات، ويتم من خلاله مخاطبة كل جوانب الكيان الإنساني روحاً وقلباً وعقلاً وحواساً، فضلاً عن التعامل مع الصغار والكبار. ولكن أن يُختزل اهتمام العابد في الطقس وحده فيصير هدفاً في ذاته يُجرِّده من علاقته العضوية بالعبادة الروحية، هذا يجعل التديُّن قاصراً منقوصاً ويحرم المصلِّي من التمتُّع بالشركة الكاملة.

 

ويضم هذا النمط مـن التدين كثيرين من أصحاب المواهب الفنية كالرسم والموسيقى والترنيم، ومنهم مَن يتقنون الأعمال الطقسية (مثل الشمامسة والمرتلين) دون إدراك روحها، ودون أن يصلُّوا بالذهن أيضاً متابعين المعاني (في الألحان مثلاً)، واهتمامهم أكثر على إتقان الأداء لا التسبيح الذي هو عمل الملائكة.

 

ونحن نحتاج في كنائسنا للمتخصصين الدارسين للطقوس الذين يعرفون الصلوات والألحان واللغات والأصوام والأعياد وسائر المناسبات والترتيبات الخاصة بكل منها. على ألاَّ تستقل هذه الجوانب كلها عن العبادة بالروح، وإلاَّ فقدت معناها وحدودها وصارت أشكالاً بلا روح. وعلى أن يكون كل ”الطقسيين“ أشخاصاً روحيين يتقنون الصلاة ويحفظون كلمة الله، ويُمارسون التوبة ويعبدون الله كحنَّة النبية بأصوامٍ وطلبات ليلاً ونهاراً (لو 37:2).

 

ويتصل بهذا اللون من التديُّن هؤلاء الذين قَصَروا علاقاتهم المسيحية على حضور الكنيسة فقط في المناسبات الكنسية كالأعياد السيدية وأعياد القديسين وزيارات الأديرة؛ حيث لا تتيح الأعداد الكبيرة من الحاضرين في هذه الظروف فرصة حقيقية للصلاة والاتصال بالرب؛ فينصرفون إلى لمس الصور وإيقاد الشموع. ولكن ماذا يمكن أن تفيد هذه بغير الإيمان؟

إن الكنائس والأديرة ليست مزارات، إنها مكان الصلاة والتوبة، وأعظم ما فيها ”حضور المسيح“. فإذا دخلنا وخرجنا دون أن نلتقيه نكون قد أخطأنا الهدف. وإذا كان أقصى ما نلناه لمسة صورة أو قارورة زيت أو قطعة خبز، نكون كمَن دُعِيَ لحضور حفل عشاء مع الملك، فضلَّ طريقه إليه ولم يأخذ غير الفتات.

 

9. تديُّن القدرة والعطاء:

 

ممارسو هذا التديُّن يتصلون بالدين من زاوية العطاء المادي. فهم مقتدرون أصحاب أعمال ويملكون الكثير. وهم يقدِّمون أموالاً وأدوات وموادًا وخيرات للكنائس والأديرة والمؤسسات الدينية الأخرى، خاصة تلك المهتمة بالفقراء والأيتام. وهم موضع التقدير والحفاوة والاهتمام في الوسط الكنسي بما يقدِّمونه من الإسهام المادي. وكثيرون مِمَّن يملكون هم مؤمنون أتقياء متضعون يحيون التوبة، ويشعرون أن كل ما لهم هو حقٌّ للرب فيُقدِّمونه له عن طيب خاطر. والكتاب يحفل بأمثلة كثيرة من هؤلاء، فرجال الله إبراهيم وأيوب وداود كانوا أغنياء وأصحاب سلطة، ولكنهم ظلوا نماذج رفيعة في الإيمان.

 

ولكن عندما يكتفي القادرون بأن يعطوا الله الماديات - وهي فائضة عندهم - بينما حياتهم جسدية غير مُدقِّقة ويتجاهلون التوبة, يكونون قد فقدوا الاتجاه الصحيح. فالله يُنادي: «يا ابني أعطني قلبك، ولتُلاحظ عيناك طرقي» (أم 26:23). ومعلِّمنا بولس الرسول يُحذِّر: «إن أطعمت كل أموالي... ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً» (1كو 3:13). فالله لا يهمه حجم العطاء قدر ما يهمه الحب الذي يدفع إليه: «تحب الرب إلهك... من كل قدرتك» (لو 27:10)، وهو رأى أن الأرملة صاحبة الفلسين: «ألقت أكثر من جميع الذي ألقوا في الخزانة» لأنها «من إعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها.» (مر 43:12و44)

 

إن المال بركة، ولكن محبته أصل لكل الشرور (1تي 10:6). ويمكن للمال أن يخدم خلاص الإنسان لو هو نفَّذ وصية الرب: «اذهب بِعْ كل ما لك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنـزٌ في السماء، وتعالَ اتبعني حاملاً الصليب.» (مر 21:10)

 

10. التديُّن الاحترافي:

 

هذا الانحراف يمكن أن يتعرَّض له البعض مِمَّن يعملون في الحقل الديني، مثل الرعاة والمرتِّلين والشمامسة وأعضاء المجالس الكنسية وصانع القربان وموظفي الكنيسة وغيرهم. وقد تبدأ خدمة هؤلاء حارة روحية حتى وإن تناولت أموراً مادية. ولكن مُضيّ الزمن والانشغال عن محاسبة الذات يحوِّل الخدمة إلى وظيفة (كما كان الحال مع الفرِّيسيين) تستقل بالتدريج عن خدمة المسيح لتصير لخدمة الذات والأرض والعالم وزيادة الرصيد. ويتحوَّل الارتباط بالدين بالنسبة للبعض إلى مصدر للقمة العيش، لا يحتملون أن يقاسمهم فيها آخر، كما يتحوَّل الأداء - بما فيه الصلوات الطقسية - إلى نشاط آلي هدفه الكسب، كأداء الموظف النشيط المتقن لحرفته أو فنه والذي لا يعرف مبدأ «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا.» (مت 8:10)

 

وقد نشير هنا إلى هؤلاء الذين يتاجرون باختبارهم الخلاصي مع المسيح. فبعد أيام السمو الأولى مع الإيمان الجديد وهم يكادون يطيرون من بهجة اللُّقيا مع الرب وانتشالهم من الموت، ثم بالتفاف الناس حولهم لتُمجِّد الله؛ تدور رؤوسهم بالشهرة والاهتمام بهم والهبات التي تنهال عليهم ويتحوَّل إيمانهم إلى رأسمالهم.

 

ربما احتاج الرعاة والخدَّام والمبشِّرون الذين يدورون في نفس مواقعهم دون نمو حقيقي وتحوَّلت خدمتهم اضطراراً إلى الرياء، أن يتوقَّفوا من حين إلى حين لمراجعة حياتهم وخدمتهم في خلوة قد تطول بانسحاقٍ يحنن قلب الله ليهبهم قوة روحية تجدِّد خدمتهم.

بالطبع فهناك في الحقل الديني مَن يظلون على بكارتهم وخدمتهم الباذلة التي يتجدَّد شبابها بالروح مع كل يوم، وتؤتي ثمارها التي يتمجَّد بها الله. وسرُّهم هو اتضاعهم واتصالهم الدائم بالروح مصدر القوة.

 

11. تديُّن التجارة والتربُّح:

هذا تديُّن بعض المستفيدين مادياً من النشاط الديني وهم كثيرون، مثل مَن يصنعون ملابس الخدمة، أو يقومون بأعمال البناء والتجارة والكهرباء، أو المتخصِّصون في عمل حجاب الهيكل والمنجليات ورسم الأيقونـات، أو مَـن ينتجون الشرائط الصوتيـة والأفلام الدينيـة، أو أصحاب المطابع والمكتبات وناشرو الكتب والصور الدينية، أو مورِّدو المواد الغذائية، أو الباعة حول الكنائس وفي أعياد القديسين، وغيرهم.

 

هؤلاء في خطر ألاَّ يلتقوا بالمسيح، ويكتفون بالاستفادة المادية من ورائه واستغلال الدين في التربُّح.

 

إنهم بالفعل يؤدُّون خدمات مطلوبة ولا يُستغنى عنها، ولكن أن يصير هذا هو كل نصيبهم من العلاقة مع المسيح، فهذا أمرٌ مرفوض ويهدِّد خلاصهم. وعليهم أن يفصلوا بين عملهم وبين علاقتهم بالمخلِّص، أي ألاَّ يصير عملهم بديلاً عن ممارسة التوبة وحَمْل الصليب، وأن يحرصوا على تنفيذ الوصايا في كل معاملاتهم، وأن تكون الأمانة والإتقان والالتزام وحُسن المعاملة والصدق واحترام بيت الله وعدم الطمع بالربح القبيح؛ هي قانونهم الأساسي. وأن يجعلوا أعمالهم هذه فرصة دائمة لاتصالٍ حقيقي بشخص المسيح. فتتصل أعمالهم بإيمانهم وتأخذ مِن ثمَّ بُعدها الإلهي: «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها.» (أف 10:2)

 

هذا لم يكن الحال مع الصيارفة وباعة الحمام في الهيكل. لقد استبعدوا الله وشريعته، وصار المال هو المعبود الوحيد؛ فحقَّ عليهم الطرد من بيت الله، وأن يسمعوا الصوت الحازم الممتلئ بالغيرة: «بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت 13:21، مر 17:11، لو 46:19)، «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يو 16:2). فلنحذر، إذن.

 

12. التديُّن النفعي أو الموسمي:

 

هذا تديُّن فاتر المحبة، ضيق الصدر، لم يختبر أصحابه إيماناً حقيقياً تعرَّفوا من خلاله على شخص الرب؛ بل ولا يريدون أن يعرفوه أو يَعِدون بأي التزام، وما يربطهم به هو الحاجة. إنهم يريدون أن يبقوا أحراراً في نهجهم الجسدي. ومن حين إلى حين يأتون إلى الكنيسة - متأخِّرين عادة - ربما لإراحة ضميرهم، أو تحت الضغط الاجتماعي، أو عند الطوارئ عندما تحيق بهم نازلة؛ فيهرعون إلى الله والكنيسة، ويظلون في حالة استنفار حتى يعود الحال إلى ما كان عليه. إنهم لا يهبُّون لسؤال السيد إلاَّ لمنفعةٍ. وهذا التديُّن هو تديُّن أعداد كبيرة من الطلاب الذين لا يعرفون باب الكنيسة أو طريق التضرُّع إلاَّ أيام محنتهم الموسمية، أي امتحانات كل عام، ولا يعودون إلاَّ مع امتحانات العام التالي.

 

في محبته يتحنن الله على هؤلاء المحتاجين، وقد يستجيب لتوسُّلاتهم ويحلّ مشاكلهم، فهو الذي يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين (مت 45:5)، والمعتني حتى بطيور السماء. ولكن على هؤلاء أن يدركوا أن ملكوت السموات أعظم: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره» (مت 33:6). ولِمَن صار الملكوت مقصدهم ينالون من الله العطايا الأدنى: «وهذه كلها تُزاد لكم».

إنه مما يثير الإشفاق أن نكون محتاجين، وأن يكون لنا هذا الإله الغني المستعد أن يُعطي بسخاء ولا يُعيِّر، ونحن لا نلتقي به إلاَّ قليلاً، ولا نخجل أن نجعل علاقتنا به نفعية بصورة صارخة. وبعد أن ننال ما نريد نمضي هائمين إلى فقر الحياة من جديد!

 

13. التديُّن المريض:

 

يحتمي بالدين بعض المرضى النفسيين كارهي الحياة مِمَّن يعانون من صغر النفس أو الشعور بالنقص أو ضعف الشخصية أو توقُّف نموها. هؤلاء قد يجدون بعض الكرامة أو الطمأنينة في الانخراط في الحياة الدينية. وربما رآهم البعض قديسين، فيرضيهم ذلك ويسعدهم.

 

كما ينتمي إلى هذا النمط أيضاً بعض البسطاء الذين يختلط عندهم الدين بالجهل والخرافة ولم يختبروا إيماناً حقيقياً بشخص الرب، وليس لهم من ”الدين“ غير قشوره. ومن هنا فهم متطيِّرون متشائمون، متوجِّسون مما قد تأتي به الأيام، وينسبون ما قد يتعرَّضون له من مشكلات إلى الحسد وأعمال السحر. وبالتالي فلا ضير عندهم من اللجوء إلى الموروث الشعبي من أعمال السحر المضاد، أو إلى الدجَّالين أو المشتغلين بالسحر المتسترين أحياناً بالدين.

 

المرضى النفسيون يساعدهم العلاج النفسي والإرشاد الروحي حتى تبرأ نفوسهم وشخصياتهم من عاهاتها، أو على الأقل يُوضعون على الطريق الصحيح للنمو النفسي حتى يمكنهم التمتُّع بعلاقة صحية مع الرب. والبسطاء أسيرو الجهل والخرافة يحتاجون إلى التعليم الكنسي المُقدَّم خصيصاً لِمَن في مستواهم. كما يفيد الأُميين منهم محو أميتهم ليستطيعوا أن يقرأوا كلمة الله فيستنيروا ويتبعوا الإيمان الصحيح.

 

 

ربما تبتئس النفس الأمينة ويصيبها الجزع بعد هذا الاستعراض المحزن لألوان سلبية من التديُّن تنكَّبت الطريق إلى المسيح «الذي ليس بأحد غيره الخلاص» (أع 12:4)، وتعلَّقت بما حوله وهي تحسب - واهمة أو متعمِّدة - أنها على الطريق الصحيح، وربما خالجها الشك في أمانة سلوك كل المتدينين، أو حتى في صدق توجُّهها الإيماني هي ذاتها.

 

ولكن بيقين التأكيد هنا أن هذه الانحرافات قد وُجدت منذ أن وُجد الإنسان وستظل إلى مدى الأيام تشوِّه وجه الحياة الدينية وتُعثر الكثيرين. ولكن وجودها لا يعني أنها هي التوجُّه السائد، أو أن كل المتدينين هم مدَّعون، أو طائفيون، أو حَرفيُّون، أو نفعيون، أو مرضى نفسيون... إلى آخر القائمة.

 

ففي الحياة الكنسية يوجد دائماً الروح القدس ”المرشد إلى جميع الحق“ (يو 13:16). وفي كل مكان يوجد القديسون والعُبَّاد والنسَّاك والمجاهدون والمحبون الباذلون للرب وللقريب؛ والخدَّام الأمناء الذين يضيعون حياتهم من أجل مجد الله وخلاص الآخرين؛ والمؤمنون المخلصون للرب؛ وربوات ربوات من الأتقياء الملتزمين الذين لا يعرفهم أحد، ولكنهم معروفون عند الله وأسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة، وسوف يأتي يوم يجازيهم الرب علانية.

 

إن التديُّن المسيحي الحقيقي - أي الحياة مع المسيح - نعمة عظيمة. فهو يعني ارتباطاً عضوياً بالمخلِّص، بالإيمان، كل الحياة. وفيه يقتات المسيحي على الحق، ويُقتاد بالروح القدس إلى الملكوت. ولكن إبليس عدونا يجتهد لإحباط كل محاولة للاقتراب من الرب، فضلاً عن لقائه والارتباط به.

 

ولمن استطاع الاقتراب من الرب، فإن إبليس يلجأ لتزييف الإيمان بتحويل ارتباطه بالمسيح إلى مَن أو ما حول المسيح بديلاً عنه: أشخاصاً كانوا (القديسين، آباء الكنيسة، الرعاة، الطائفة)، أم أشياء (الصور، الأيقونات، الطقوس، الكتب)، أم أماكن (الكنيسة، الدير)؛ أو يحجب كل الكيان عن أن يخضع بكامله للرب بالإيمان، فيكتفي الشخص بالعواطف السطحية أو النشاط العقلي أو استخدام المواهب أو القدرات، وهكذا.

 

إن ألوان التديُّن الزائف هي الخطر المحدق بإيمان المسيحي. ولكن المؤمن الحقيقي الساعي إلى الحياة الأبدية لن يسمح بذلك. فالمسيح هو المخلِّص الوحيد (أع 12:4)، وهو الشفيع عند الآب إن أخطأنا (1يو 1:2)، وهو رأس الجسد الكنيسة (كو 18:1)، وهو العامل فينا أن نريد وأن نفعل (في 13:2) لأنه يحيا فينا (غل 20:2) وبدونه لن نقدر أن نفعل شيئاً (يو 5:15)، وهو الباب المؤدِّي إلى الحياة الأبدية (يو 9:10)، وهو الطريق إليها (يو 6:14)؛ بل هو القيامة والحياة (يو 25:11): «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو 3:17)

 

محور التديُّن في الحياة المسيحية، إذن، ليس هو جوانب العبادة ذاتها، وإنما هو الإيمان بالمسيح، ومنه يستمد أي عمل أو عبادة قيمته، وبغيره يصير عملاً ميتاً. والرب يسوع هو الذي ينعم علينا بخلاصه فنصير أولاد الله (يو 12:1)، ويهبنا حياة جديدة قادرة من خلال محبته وشركة الجسد والدم على دوام إنكار الذات والتوبة والصلاة وقراءة الكلمة والصوم ونواحي العبادة الأخرى، وخدمة العالم كسفراء عن المسيح (2كو 20:5)، وقبول الآلام من أجله (في 29:1)، ثم نوال المجد الأبدي عند مجيئه الثاني.

 

المسيح، إذن، هو وسيلتنا وغايتنا في الحياة الحاضرة والأبدية. فالحياة المسيحية هي هي المسيح لا أكثر ولا أقل.

دكتور جميل نجيب سليمان

 

 

Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:48