Home المقالات أعظم من يونان
Print

من أركان الحياة الروحية:

 

حياة الشكر

 

لا شكَّ أن تقديم الشكر لله هو أحد أركان الحياة الروحية في العهدين القديم والجديد، وهو علامة الإيمان الحيّ وتسليم الحياة لله، كما أنه مؤشر على نمو الشركة مع الله صانع الخيرات.

 

المسيح يُعلِّمنا:

 

ها هو السيد أيام تجسُّده كان يُمارس هذا الاتجاه مُقدِّماً الشكر للآب في كل مناسبة، فيقول: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» (مت 25:11). فالشكر هنا لأن ملكوت الله يقترب، وها هو المخلِّص بين الناس، وها هو الرب يكشف أسراره للبسطاء الذين قبلوه.

وفي معجزة إشباع الجموع (مت 36:15، مر 6:8، يو 11:6)، وعند تأسيس سر الإفخارستيا (مت 27:26، لو 17:22)، فإن الرب ”شكر وبارك“. وعند إقامة لعازر رفع يسوع عينيه إلى فوق قائلاً: «أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي» (يو 41:11). فالمسيح يدعونا أن نشكر الله على عطاياه السابقة واللاحقة: «مراحمه لا تزول، هي جديدة في كل صباح» (مرا 22:3و23). وبعين الإيمان نرى استجابته الآتية، حتى ولو تأخرت، وحتى لو كانت بالرفض. فالله المُحب يرفض من طلباتنا ما لا يُناسبنا، أو ما كان منها ضدًّا لنا ونحن لا ندري.

 

وكلمات الكتاب تعلِّمنا:

 

فالوحي الإلهي على لسان كاتب المزامير يحثنا أن «احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته» (مز 1:136). ومعلِّمنا بولس الرسول عندما أخذ خبزاً «شكر الله أمام الجميع، وكسَّر، وابتدأ يأكل» (أع 35:27)، وقد كتب إلى أهل فيلبِّـي يقول: «لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلم طلباتكم لدى الله» (في 6:4)، كما كتب أيضاً إلى أهل أفسس يقول: «شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح، لله والآب» (أف 20:5). فالصلاة تكون مع الشكر، واللقمة تؤكل مع الشكر، وأن يكون الشكر كل حين وعلى كل شيء.

 

ولا يفتأ بولس الرسول في تقديم الشكر لله على اختياره وعلى مساندته لخدمته وعلى قبول الأمم للإيمان: «وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قوَّاني، أنه حسبني أميناً، إذ جعلني للخدمة» (1تي 12:1)، «أشكر إلهي بيسوع المسيح (في كل حين) من جهة جميعكم أن إيمانكم يُنادَى به في كل العالم» (رو 8:1، 1كو 4:1، 1تس 2:1)، «أشكر إلهي عند كل ذِكْري إيَّاكم» (في 3:1)، «نشكر الله وأبا ربنا يسوع المسيح كل حين، مُصلِّين لأجلكم، إذ سمعنا إيمانكم بالمسيح يسوع» (كو 3:1و4). فخادم الله يشكر الله الذي اختاره للخدمة، وهو إذ يشعر بعمل الله في خدمته يُقدِّم شكراً لله الذي يُخلِّص ويُبارك ويُنمي ويستخدم خدمته وإمكاناته القليلة، فيُثمر بها الكثير.

 

والكنيسة تُعلِّمنا:

 

فصلاة الشكر هي بداية كل الصلوات، سواء أكانت صلوات السواعي، أو القدَّاس (الحافل بكلمات الشكر)، أو سائر الأسرار، وحتى عند الصلاة على الراقدين. فالنفوس المؤمنة التي أسلمت قلبها لله، والتي تثق في محبة الله وكمال تدبيره وأن كل ما يعمله هو للخير؛ تُقدِّم له الشكر على كل حال.

 

و”التسبحة“ وهي تفيض بآيات الشكر، تتغنَّى بها الكنيسة مُسبِّحة مع الملائكة، الذين رآهم القديس يوحنا واقفين حول العرش ساجدين قائلين: «البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين» (رؤ 12:7)، ويُشاركهم الشكر أيضاً الأربعة والعشرون قسيساً قائلين: «نشكرك أيها الرب الإله القادر على كل شيء.» (رؤ 17:11)

 

والتقاليد والأعراف تُعلِّمنا:

 

فمن التقاليد القبطية أن الشخص بعد أن يتناول طعامه يقول: ”الحمد لله“. كما أن كثيرين في المجتمع القبطي عندما يُقدَّم لهم شكرٌ على خدمةٍ ما، يتعفَّفون عن قبوله بقولهم: ”لا شكر على واجب“ أو ”الشكر لله“، باعتبار أن الأمر من قبل ومن بعد يعود إلى الله، فهو الذي أعطى وسمح ودفع إلى فعل الخير، وهو بالتالي مَن يستحق الشكر.

 

وفي المجتمعات المتحضرة صارت كلمة الشكر تلقائية بعد كل عمل أو خدمة أو لفتة مهما كان حجمها. إن كلمة الشكر تعني أن النفس رقيقة المشاعر قد التقطت فعل الخير وأدركته. ونحن مدينون بكلمة أو التفاتة الشكر أمام أية بادرة للخير. والذين صار شكر الله عندهم قانون الحياة، يسهل عليهم شكر الآخرين على خدمتهم وأتعابهم، صغرت أم كبرت.

 

مجالات الشكر:

 

نحن نشكر الله على العطايا والنِّعَم التي يُشاركنا فيها كل البشر: فإنه «يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين» (مت 45:5)؛ وذلك مثل: نعمة الحياة، الطبيعة من حولنا المسخَّرة لخدمتنا، الصحة، المواهب، النجاح، السلامة، العائلة، المال، الطعام، الملبس... إلخ. وفي هذا يُنبِّهنا الله قائلاً: «لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، أو ماذا نشرب، أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم.» (مت 31:6و32)

ولكننا كمؤمنين لنا عطايانا الخاصة التي هي أعظم بما لا يُقاس؛ مثل: نعمة الخلاص والغفران والحياة الأبدية، الحياة بالإيمان، هبات الروح القدس، كلمة الله، نعمة العبادة والتسبيح، خدمة المسيح والتبشير باسمه والتألُّم والموت من أجله. كل هذا مما يجعل لحياتنا قيمة حقيقية تتجاوز مجرد الوجود، فنردِّد مع صاحب المزمور: «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبكِ. الذي يشفي كل أمراضكِ (الروحية والجسدية). الذي يفدي من الحفرة (التجربة) حياتكِ. الذي يُكلِّلكِ بالرحمة والرأفة. الذي يُشبع بالخير عمركِ، فيتجدَّد مثل النسر شبابكِ.» (مز 2:103-5)

 

لماذا الشـكر؟

 

الشكر لله هو ردّ فعل طبيعي لنفسٍ مؤمنة تُدرك أنها بالله تحيا وتتحرك وتوجد (أع 28:17)، فتشكره على عطاياه التي لا تُستقصَى.

 

والشكر هو علامة الإيمان بأن الله صالح لا يصنع إلاَّ خيراً: «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله» (رو 28:8)، كما أنه ضابط الكل الذي ”لا يدعنا نُجرَّب فوق ما نستطيع بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ“ وذلك بعد تحقيق قصد الله (1كو 13:10). ومن هنا فإن شكرنا في التجارب والضيقات والآلام هو علامة طاعتنا وتسليمنا لِمَن هو موضع رجائنا، وثقتنا في حُسن تدبيره وصدق مواعيده. كما أن شكرنا لله على القليل كما نشكره على الكثير هو علامة اكتفائنا: «إن كان لنا قوتٌ وكسوة فلنكتفِ بهما» (1تي 8:6)، وأن سرَّ الغِنَى الحقيقي هو حضور الله في حياتنا.

 

وشكر الآخرين على ما يقدِّمونه لنا من خير هو بنوع ما شكرٌ لله في شخص هؤلاء الذين دبرتهم نعمة الله لخدمتنا ومساعدتنا. وفيما يتعلَّق بنا فعلينا أن نصنع الخير ونقدِّم المساعدة دون أن ننتظر شكراً من أحد. فالخدمة مُقدَّمة لله: «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم» (مت 40:25)، والله ليس بظالم حتى ينسى تعب المحبة مهما كان ضئيلاً: «مَن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد... إنه لا يضيع أجره.» (مت 42:10)

 

وإذا كان الشكر يُبهج قلب الله، إذ يرى أولاده المحبين يُبدون امتنانهم لعطاياه ورعايته لهم كل الأيام، فإنه مما يحزن قلب الله أن تتجمد مشاعر الإنسان الذي ينال العطية، ويفوته أن يمجِّد الله؛ حتى أن الرب بعد ما شفى البُرص العشرة ولم يرجع منهم غير واحد -  وكان سامرياً -  ليمجِّد الله، تأسَّف في قلبه قائلاً: «ألم يوجد مَن يرجع ليُعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس؟» (لو 18:17). فالشكر فضيلة رائعة، بينما الجحود والإهمال تراجُع عن إنسانية الإنسان وتباعُده عن الله مصدر كل خير.

 

إن الاستخفاف بعطية الله، وأسوأ منه التذمُّر وعدم الرضا، هو إعلان عن الانفصال عن الله وفقدان الثقة في مواعيده. ونتيجته المحتومة حياة قلقة لا تعرف الراحة وتُعاني التعاسة التي تعكسها على مَن حولها. وأمامنا موقف أيوب وموقف امرأته، فبينما استطاع أيوب -  بقبوله كل ما سمح به الله له - أن ينجو بنفسه متماسكةً صابرةً شاكرة، عابراً وادي الآلام، حتى نال عاقبة صبره وشُكره؛ كانت امرأته عبئاً عليه، بتذمُّرها واحتجاجها وانتقادها لكل ما جرى، فلم تحصد إلاَّ علقماً.

 

وها هو الرب بذراعه الرفيعة ينقذ بني إسرائيل من العبودية ويُخرجهم من مصر، ولكن تذمُّرهم كان سبب غضب الله ونبيه موسى. فقد رأوا فيما صنعه الله مؤامرة لإماتتهم: «هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟» (خر 11:14و12)، «لماذا أصعدتنا من مصر لتُميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟» (خر 3:17). وحتى لما دبَّر الله لهم المنّ والسلوى طعاماً لهم يتجدَّد كل يوم على مدى السنين، قالوا: «كرهت أنفسنا الطعام السخيف» (عد 5:21). وكانت عاقبة غلاظة القلب والرقبة ورفض تدبير الله وإهانته، هلاكاً لكل مَن خرج من أرض مصر خلال سنوات التيه الأربعين، ولم يدخل كنعان منهم سوى يشوع وكالب وأجيالهم التالية.

 

بركات حياة الشـكر:

 

إن نفس الله ترتاح في القلوب الطائعة الشاكرة دوماً، والتي ألقت كل رجائها على الله أصل وجودها. وكلما التزمت النفس بالشكر، سواء فاضت عليها البركات والأفراح، أم حاصرتها الآلام والتجارب؛ كلما تمتعت بعناية الله ورعايته وحمايته وبركاته أضعافاً: «لأنه تعلَّق بي أُنجِّيه. أُرَفِّعُه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الشدة. أُنقذه وأُمجِّده، من طول الأيام أُشبعه، وأُريه خلاصي.» (مز 14:91-16)

 

ومن ناحيتنا فإن حياة الشكر تملأ النفس بالفرح، لأننا أرضينا الله بالتفاتنا وتقديرنا لعطاياه، ولأن نعمة الله سندتنا فلم تسمح للتجربة أن تفصلنا عن محبة الله؛ بل صرنا بالتجربة أقرب إلى الله. وتصاعد يقيننا أن الله لا يفعل إلاَّ الخير، وأننا موضع اهتمامه، ومن هنا يحل السلام الواثق منتظراً موعد الرب. وهذا بالتالي يُحبط عمل الشرير الذي يريد أن يمتلئ القلب بالتذمُّر والجحود والاستهانة بعطية الله.

 

إن الله صانع الخيرات يستحق شكرنا، وإن كان لا يحتاجه. فليضئ روح الله حواسنا الداخلية لتُدرك إحسانات الله كل الحياة، ولنجعل من كل يوم عيداً للشكر.

 

دكتور جميل نجيب سليمان

 

 

Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:44