Home المقالات أعظم من يونان
Print

 

التجسُّد والحياة:

رؤية مسيحية للحياة والوجود

ملخص


1. تقديس الكون والمادة.

2. تقديس الأرض ونواتجها.

3. تقديس الطعام.

4. تقديس العمل.

5. تقديس المال.

6. تقديس الحياة بصورة عامة.

 

عندما نقترب من ذِكْرى الميلاد يتداعى إلى القلب والعقل مجدَّداً هذا  الحدث الإلهي المبهر وهو: تجسُّد ابن الله، الذي اقتضى تنازله وإخلاءه ليصير إنساناً شريكاً للبشر في بشريتهم دون خطيتهم (عب 15:4)، مُنعماً على البشر ليصيروا ــ مِن ثمَّ ــ بالخلاص، شركاء طبيعته الإلهية (2بط 4:1)؛ وليكون مثل البشر ينحصر جسدياً في الزمان والمكان وقوائم التعداد والأنساب؛ ومثلهم يجوز الآلام والتجارب (عب 18:2)، منحازاً بإرادته إلى مَن لا يمتلكون ــ وهو الذي يمتلك كل شيء ــ فيصير انتماؤه إليهم وانتماؤهم إليه عزاءً فائضاً عن حرمانهم. وقبل هذا وفوقه يحمل خطايا الجميع ويموت من أجلهم بديلاً ونائباً عنهم، فيُحقق لهم الفداء الذي انتظرته الأجيال مدى الدهور.

 

وإذا كان الفداء يتعلَّق بالمصير الأبدي، فإن الخلاص يبدأ الآن وهنا، ويكمل عند المجيء الثاني للرب: «هكذا المسيح أيضاً، بعد ما قُدِّم مرَّة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عب 28:9)، «أنتم الذين بقوة الله محروسون، بإيمانٍ، لخلاصٍ مُستَعَدٍّ أن يُعلن في الزمان الأخير.» (1بط 5:1)

 

ولكن ثمار التجسُّد متكاثرة. ففي الطريق إلى تحقيق الفداء بالآلام والموت والقيامة، كان الرب يُقدِّم في نفسه نموذج الخليقة الجديدة المنتصرة على العالم ورئيسه والخطية والموت، ويرسم بالتعليم نهج الحياة الجديدة، ويصنع ويضمن بدمه عهداً جديداً أعظم من العهد الأول (إر 31:31، مت 28:26، مر 24:14، لو 20:22، 1كو 25:11، عب 8:8)، «ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد، لكي يكون المدعوُّون ــ إذ صار موتٌ لفداء التعدِّيات التي في العهد الأول ــ ينالون وعد الميراث الأبدي» (عب 15:9)، ويهب عناصر القوة للغلبة وطاعة الوصية وبدء حياة الملكوت على الأرض بعطية الروح القدس الشاهد للرب (يو 26:15)، وفاعلية الكلمة (عب 12:4)، وشركة الجسد والدم للثبوت في المسيح ونوال الحياة الأبدية (يو 54:6)، وباب الصلاة المفتوح دوماً على السماء، وحق التوبة والغفران المكفول بختم الدم والإيمان بالمسيح مخلِّصاً وحيداً: «وليس بأحدٍ غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلُص.» (أع 12:4)

 

1. تقديس الكون والمادة:

 

على أن التجسُّد كحدث كوني لم ينحصر فعله في إنسان مجرَّد واحد؛ وإنما تمتد آثاره لتفيض على الكون كله لتقدسه: على الحياة وكل الوجود، على النبات والحيوان، على الأرض والنهر والبحر والفضاء والأفلاك، على المادة وسائر الأشياء: «لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئنُّ وتتمخَّض معاً إلى الآن» (رو 21:8و22). ويمكن أن يتسع تعبير ”الخليقة“ ليشمل الكون كله بكل ما فيه ومَنْ عليه. فالكون رغم قصوره ومحدوديته، والمادة رغم مآلها في النهاية إلى زوال: «السماء والأرض تزولان» (مت 35:24، مر 31:13، لو 33:21)، «لأن هيئة هذا العالم تزول» (1كو 31:7)، «ولكن سيأتي كلصٍّ في الليل، يوم الرب، الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحلُّ العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها» (2بط 10:3)؛ فإنها ليست شريرة في ذاتها. وفي هذا يؤكِّد القديس بولس في رسالته الأولى إلى تلميذه تيموثاوس على أنَّ: «كل خليقة الله جيدة» (1تي 4:4)؛ بل إن السطور الأولى من العهد القديم تشير إلى أنه عندما أتمَّ الله خَلْق العالم في اليوم السادس «رأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنٌ جداً.» (تك 31:1)

 

كما أنه عندما تجلَّى الرب وأضاء وجهه كالشمس، تجلَّت أيضاً معه ثيابه: «وصارت ثيابه بيضاء كالنور» (مت 2:17)، «وصارت ثيابه تلمع بيضاء جداً كالثلج، لا يقدر قصَّارٌ على الأرض أن يُبيِّض مثل ذلك» (مر 3:9). فها هو مجد الرب يمتد منه إلى ثيابه، وهكذا في تجسُّد الرب تلتقي الروح والمادة في انسجام ووئام، كما أن تجلِّي الرب سينسحب على كل الكون الذي خلقه عندما يحقِّق وعده لمؤمنيه بسمواتٍ جديدة وأرضٍ جديدة أكثر بهاءً وسطوعاً، تتوارى أمامها كل الشموس والنجوم القديمة.

 

2. تقديس الأرض ونواتجها:

 

عندما أخذ الابن جسدنا عاش على أرضنا وأكل من نتاجها وشرب من مائها، وخلال خدمته سار في دروبها وصعد إلى جبالها وهبط في وديانها وأبحر في مياهها فقدَّسها جميعاً. وعندما شاء الرب أن يترك لنا إلى نهاية الأيام جسده ودمه لنحيا بهما، اختار خبز الحنطة وعصير الكرمة. وقد تقدَّست كل الأشجار عندما اشتركت خشبتان منها لتصنعا صليباً عُلِّق عليه رب المجد، فصنع به خلاصنا وصار «علامة ابن الإنسان» (مت 30:24) وسمة كل مَن يتبعه. ولأشواك النبات أن تدهش إذ صنع منها العالم تاجاً كُلِّل به جبين المخلِّص لتكميل آلامه (عب 10:2).

 

والكنيسة في ممارسة أسرارها تستخدم الماء (في المعمودية) وزيت الميرون (في سر المسحة أو التثبيت) والزيت (في مسحة المرضى والزيجة والكهنوت)؛ فيحلّ الروح القدس في هذه المواد بصلاة الكاهن ويتم عمل السر في الإنسان. كما تُكرَّس الكنيسة: المبنى والهيكل والمذبح وأدوات الخدمة والأيقونات، برشمها بالزيت فتتقدَّس وتصير مخصَّصة لعمل الله وخدمته.

 

وقبل مجيء الرب كانت الأرض تحت اللعنة بسبب الخطية: «ملعونة الأرض بسببك» (تك 17:3). كما واجه الرب قايين بخطيئته قائلاً: «ملعونٌ أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك» (تك 11:4). اللعنة هنا تعبيرٌ عن غضب الله على  أول خطية وبها دخلت الخطية إلى العالم، وأول جريمة قتل تُقترف على وجه الأرض.

 

بالتجسُّد جاء مَن يصنع المصالحة ويرفع الغضب واللعنة عن الإنسان والوجود فيتم الخلاص للكل: «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (2كو 21:5)، «المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعونٌ كلُّ مَن عُلِّق على خشبة.» (غل 13:3)

 

وقد تعلَّمت الكنيسة من سيدها أن تذكر في طلباتها المياه والزروع والثمار، وهي تُدرك أن كل الأشياء طاهرة (رو 20:14). حتى الخمر وبعض المزروعات (المخفِّفة للآلام) والإشعاع والطاقة النووية وغيرها كلها خيِّرة في الأساس، وهي عناصر هامة في الدواء والجراحات والعلاج وتخفيف الآلام والتعقيم وتوليد الطاقات للصناعة وغيرها؛ ولكن يمكن تجريدها من وظائفها العظيمة هذه في خدمة الإنسان لتتحوَّل إلى أدوات للشر والتدمير.

 

3. تقديس الطعام:

 

يذكر معلِّمنا بولس الرسول أن الأطعمة «قد خلقها الله لتُتَنَاول بالشكر من المؤمنين» (1تي 3:4). وقد بدَّد الرب أي توهُّم عن نجاسة أطعمة أو كائنات أو أشياء بعينها: «ليس ما يدخل الفم يُنجِّس الإنسان» (مت 11:15)، «ما طهَّره الله لا تُدنِّسه أنت» (أع 15:10). وعلى هذا النهج كتب معلِّمنا بولس: «كل ما يُباع في الملحمة كُلُوه غير فاحصين عن شيء، من أجل الضمير، لأن للرب الأرض وملأها.» (1كو 25:10و26)

 

على أنه من ناحية أخرى فقد حذَّر الرب من الخضوع للقمة العيش والتنكُّر لوصايا الله من أجل الحصول عليها مؤكِّداً أن الله يكفل للإنسان حاجات الجسد وعلى الإنسان مِن ثمَّ ألاَّ يهتم للغد (مت 34:6)، وأن يعمل «لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية» (يو 27:6)، وأنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (تث 3:8، مت 4:4، لو 4:4). ومعلِّمنا القديس بولس يحث على القناعة وعدم الشراهة: «إن كان لنا قوتٌ وكسوة فلنكتفِ بهما» (1تي 8:6)، وعلى أنَّ «الطعام لا يُقدِّمنا إلى الله.» (1كو 8:8)

 

وقد رسم الله الصومَ منذ القديم لإعلان التحرُّر من سيطرة الطعام، وليكون بذلاً وضبطاً للجسد كذبيحة حيَّة مقدَّسة، وإنعاشاً لعمل الروح، وتهيئة للنفس للانسحاق والتوبة واللهج في كلمة الله، وتناول طعام الحياة الأبدية أي جسد الرب ودمه.

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

 

Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:45