Home المقالات أعظم من يونان
Print

 

دراسة إنجيلية:

تعاليم المسيح عن التوبة

ــ 1 ــ

ــ يقتصر هذا المقال على تعاليم المسيح ــ أقواله وتعاليمه ــ عن التوبة، كما جاءت في الأناجيل، ولا يقصد بتناول موضوع ”التوبة“ بصورة عامة وما يتعلَّق بها من آفاق قد تتجاوز المقصود هنا.

 

المرادف اليوناني في العهد الجديد لكلمة ”التوبة“ هو كلمة ”Metanoia“ ”ميطانوا أو ميطانيا“. ومعناها الحرفي: تغيير الذهن. أما معناها الاصطلاحي ــ في كلمات قليلة ــ هو تحوُّل الفكر والقلب والباطن وتغيير اتجاه الحياة وأهدافها نحو الله والأبدية. وسيتم التوسع في هذه المعاني خلال السطور التالية.

 

مرادفات أخرى للتوبة في العهد الجديد:

 

لم ترد كلمة التوبة كثيراً في الأناجيل بصورة مباشرة للتعبير عن معناها، ولكن ذُكرت أيضاً مواقف أخرى تعبِّر عنها بشكلٍ ما مثل:

 

البيع (لمحبة اقتناء المال والأشياء):

+ «إن أردتَ أن تكون كاملاً، اذهب بـِعْ كل ما لك... وتعالَ اتبعني حاملاً الصليب.» (مت 21:19، مر 21:10)

الترك (للحياة القديمة والخطايا المحبوبة):

+ «فللوقت تركا الشباك وتبعاه» (مت 20:4، مر 18:1): بطرس وأندراوس.

+ «فللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه (وذهبا وراءه)» (مت 22:4، مر 20:1): يعقوب ويوحنا.

+ «فترك كل شيء وقام وتبعه» (مت 9:9، لو 28:5): لاوي.

+ «فتركت المرأة جرَّتها» (يو 28:4): السامرية.

+ «كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذاً.» (لو 33:14)

 

إنكار الذات وإهلاك النفس وبغضتها وحَمْل الصليب (الخروج من الذات إلى الله وتحمُّل التبعة):

+ «إن أراد أحد (مَن أراد) أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني.» (لو 23:9)

+ «فإن مَن أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها ومَن يهلك نفسه من أجلي (ومن أجل الإنجيل) يجدها (فهو ــ أو فهذا ــ يخلِّصها).» (مت 25:16، مر 35:8، لو 24:9)

+ «مَن يحب نفسه يهلكها، ومَن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية.» (يو 25:12)

وتقترن كل الحالات السابقة بتبعية المسيح، والتي تعتبر كلها شروطاً لتبعيته:

+ «اتبعني» (مت 9:9، لو 27:5): لاوي.

+ «هلمَّ ورائي...» (مت 19:4، مر 17:1): التلاميذ الصيادون.

+ «ومَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني.» (مت 38:10)

+ «ومَن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً.» (لو 27:14)

+ «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.» (مت 28:11)

الرجـوع أو التحوُّل (عـن طريق الخطية، أو الموقف الخطأ، والسير في الحياة الجديدة):

+ «إن لم ترجعوا (تتحوَّلوا وتتغيَّروا) وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السموات.» (مت 3:18)

+ «لكي يُبصروا مبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم.» (مر 12:4)

+ «لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد ثَقُلَ سماعها. وغمضوا عيونهم، لئلا يُبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم.» (مت 15:13)

+ «سمعان سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة! ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعتَ ثبِّتْ إخوتك.» (لو 31:22و32)

 

القلع والقطع (للأعضاء المعثرة أي التوبة عن خطايا بعينها):

+ «إن كانت عينك اليُمنى تُعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك (أن تدخل الحياة أعور) ولا يُلقى جسدك كله في جهنم (ولك عينان). وإن كانت يدك اليُمنى (أو رجلك) تُعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك (أن تدخل الحياة أعرج أو أجدع) ولا يُلقى جسدك كله في جهنم.» (مت 29:5و30؛ 8:18و9)

+ «وإن أعثرتك رجلك فاقطعها. خير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن تكون لك رجلان وتُطرح في جهنم في النار التي لا تُطفأ.» (مر 43:9ــ48)

 

النزع والإخراج (للعيوب):

+ «يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك.» (مت 5:7، لو 42:6)

 

الخلع (للثوب ــ أعمال الجسد ــ الإنسان العتيق) ولِبْس لباس العُرس (بر المسيح) (مت 11:22و12):

+ «إذ خلعتم الإنسان العتيق.» (كو 9:3)

+ «أن تخلعوا... الإنسان العتيق الفاسد، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف 22:4و24)

 

الندم (عن حياة الخطية):

+ «لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به، وأما العشارون والزواني فآمنوا به. وأنتم إذ رأيتم لم تندموا أخيراً لتؤمنوا به.» (مت 32:21)

وقـد تضمنت الأنـاجيل نماذج شهيرة للتائبين، تلقي مواقفها الضوء على جوانب التوبة مثل: زكا العشَّار (لو 1:19ــ10)، المرأة الخاطئة (لو 36:7ــ50)، المرأة الزانية (يو 3:8ــ11)، الابن الضال (لو 11:15ــ32)، العشَّار ــ رفيق الفرِّيسي (لو 9:18ــ14)، المرأة السامرية (يو 1:4ــ42)، وغيرهم.

 

المسيح يدعو إلى التوبة كمدخل للحياة الجديدة واقتناء الملكوت:

 

+ «جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كَمَل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل.» (مر 14:1و15)

+ «روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين (المهمَّشين والمنبوذين والمُذلِّين والمحتاجين)، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب (النفوس الكسيرة والمحطمة)، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق (من سجن الخطية) وللعُمْي بالبصر (الحياة في النور)، وأُرسل المنسحقين في الحرية (من ذل الخطية)، وأكرز بسنة الرب المقبولة... إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.» (لو 18:4ــ21)

فالتوبة التي يدعونا الرب إليها هي المدخل الطبيعي، إذن، للشفاء من الخطية والتخبُّط في الظلام، والتمتُّع بالحياة الجديدة في النور والحرية وامتدادها بالإيمان بالمسيح إلى الملكوت الأبدي.

 

المسيح يناوئ الخطية ولكن قلبه مفعم بالحب والرحمة للخطاة، ويشفق عليهم، ويدرك حاجتهم إليه، ويؤكِّد أنه جاء ليموت لأجل خلاصهم:

 

إنه السامري الصالح الذي لَمَّا جاء إلى الجريح «تحنَّن (أظهر محبته)، فتقدَّم وضمد جراحاته، وصبَّ عليها زيتاً وخمراً (شفاه من الخطية)، وأركبه على دابَّته (فضَّله عن نفسه)، وأتى به إلى فندق (هيَّأ له رعاية الكنيسة) واعتنى به (كل الأيام).» (لو 33:10و34)

+ «إذا عشارون وخطاة كثيرون قد جاءوا واتكأوا مع يسوع وتلاميذه.» (مت 10:9)

+ «هذا يقبل خطاة ويأكل معهم.» (لو 2:15)

+ «محب للعشارين والخطاة.» (مت 19:11، لو 34:7)

+ «ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا.» (رو 8:5)

+ «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلَّموا ما هو . إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.» (مت 12:9و13، مر 17:2، لو 29:5ــ32)

+ «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو 16:3)

+ «لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخْلُص به العالم.» (يو 17:3)

+ «لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين.» (مر 45:10)

+ «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي (يطلب) ويخلِّص ما قد هلك.» (مت 11:18، لو 10:19)

+ «مَن يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجاً.» (يو 37:6)

 

فضمـان الخاطئ التائب في أن يقبله الرب ولا يـرفضه، هو محبة الله ورحمته للخطاة وإشفاقه عليهم ونـزوله إليهم في مـذلتهم لإنقاذهم مـن الهلاك، وذلك بموتـه على الصليب وقيامته المنتصرة على الموت أجرة الخطية وثمرتها. فثمن الغفران قد دُفع مقدَّماً، والآن هو وقت الخلاص لا الدينونة، ولا يبقى غير أن يتقدم كل محتاج تائب لنوال نصيبه في الحياة الأبدية.

 

على أن الرب لا يحب الخاطئ لأنه خاطئ، «فطريق الشرير مكرهة الرب» (أم 9:15)، وإنما لأن الخاطئ لا يستطيع أن يخلِّص نفسه، ولأن الرب يشاء خلاصه لا هلاكه، وهذا كلَّفه دمه. وهذه المحبة تشجِّع الخاطئ على العودة إلى الأحضان الأبويـة مـن خلال الشفيع الذي هـو كفَّارة لخطايانا (1يو 1:2و2) دون أن يخشى أو يخجل أن يأتي إليه كما هو، واثقاً في قدرة الله غير المحدودة على طرح الخطية: «قد محوتُ كغيم ذنوبك.» (إش 22:44)

المسيح يشير إلى شمول التوبة الأولى:

 

في الأغلب الأعم تجتاز حياتنـا مـع الله توبـة كبرى هـي النقطــة الحاسمة الفاصلـة بين مــاضٍ متعثِّر تـلاحقه الهزائم ويغشاه الظلام، وحياة جديدة مختلفة جذرياً تتجه إلى الله وتتمتع بالخلاص الثمين ومساندة الروح في اختبار حقيقي للإيمان، تسير في النور وترفض النكوص: «كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب» (أف 8:5)، وحتى إن زلَّت فهي تنهض بالنعمة المُخلِّصة لجميع الناس (تي 11:2)، وشعارها: «نحن الذين متنا عن الخطية (إذ اعتمدنا) كيف نعيش بعد فيها.» (رو 2:6)

 

وفي حالة غير المؤمنين، فإن هذه التوبة الأولى هي الفاصل بين حالة عدم الإيمان والتغرُّب عن المخلِّص، وبـين اهتدائهم إلى الــرب وانتقالهم إلى النـور وحيـاة الإيمان المسيحي. وبـالطبع فإن تغيُّرهم يكون أكثر سطوعاً وحسماً وإبهاراً من تغيُّر هؤلاء الذين تعمَّدوا في طفولتهم ونشأوا في أوساط مؤمنة، ثم شَرَدُوا لفترة طالت أو قصرت وعادوا بعدها إلى الحظيرة.

 

وعندما نشير إلى شمول التوبة الأولى هذه، فالقصد أنها لا تعني مجرد الكف (الظاهري أحياناً) عن خطيئـة هنا أو هناك، وإنما تغييراً كامـلاً وعميقاً لنهج الحيـاة وتحوُّلاً في القلب والفكر والاتجـاه، وهــو ما ينسجم مع الإيمان الحي المخلص الذي لا يمكن أن يجتمع فيه النور مع الظلمة (2كو 14:6). وها هي كلمات الرب تشير إلى ذلك بأجلى بيان:

 

+ «ليس أحد يجعل (يخيط) رقعة من قطعة جديدة (ثوب جديد) على ثوب عتيق، لأن الملء (الجديد) يأخذ من الثوب (العتيق) (يشقّه) (والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد)، فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمراً جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشقَّ الزقاق، فالخمر تنصبُّ (تهرق) والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة في زقاق جديدة فتُحفظ جميعاً.» (مت 16:9و17، مر 21:2و22، لو 36:5ــ38)

 

وبالطبع فإن ممارسة التوبة الأولى الحاسمة ليست هي نهاية المطاف بل بدايته. فهي تعني تكريس حياة التوبة لتصير جزءًا صميمياً في النسيج الروحي للمؤمن يتواصل معه ولا يتوقف كل أيام الحياة على الأرض. فالتوبة الأولى غيَّرت الاتجاه من الضد إلى الضد. فالتبعية صارت للرب، والحياة انتقلت مِن ثمَّ إلى النور، والخطية افتضحت ولم تَعُدْ تتخفَّى، وتكوَّنت ”أجسام مضادة“ بعمل الروح تهاجم الخطية كلما تعرَّض لها المؤمن. وتصير التوبات التالية على مدى الحياة لتصحيح المسار كلما انحرف، وتنقية القلب من ”الملوِّثات“، وتجديد العبادة، ليظلَّ توجُّه الحياة لشخص الرب لا سواه.

 

وفي حوار الرب مع بطرس عند غسل الأرجل (يو 4:13ــ10)، رفض بطرس أن يغسل له الرب رجليه قائلاً: «لن تغسل رجليَّ أبداً». فأجابه الرب يسوع: «إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيبٌ». فقال له بطرس: «يا سيد، ليس رجليَّ فقط بل أيضاً يديَّ ورأسي». قال له الرب يسوع: «الذي قد اغتسل (أي اعتمد ويحيا في الإيمان وجاز توبة حاسمة ”ميطانيا“) ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه (التوبة المتجدِّدة للخطايا الطارئة وتراجُع المحبة)، بل هو طاهر كله. وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم (يقصد يهوذا)».

 

فالتوبة، إذن، هي تجديد للمعمودية وإضرام لمحبة الله في القلب بعد انحسار الخطية، وسير في النور بعد الانفلات من سلطان الظلمة. وسواء تلك التوبة الحاسمة للخاطئ مع بداية الحياة الإيمانية، أو تلك المتجدِّدة على مدى الحياة للسائرين المجاهدين، فإنها سمة للإيمان الحقيقي وانتصار له وإعلان عن تبعية المسيح وحَمْل صليبه.

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

 

Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:45