Home المقالات أعظم من يونان
Print

 

دراسة إنجيلية:

 

تعاليم المسيح عن التوبة

ــ 2 ــ

[ تناولنا في المقال الماضي (عدد فبراير 2002، ص 30)، مفهوم التوبة ومرادفاتها في العهد الجديد، ودعوة المسيح إلى التوبة كمدخل للحياة الجديدة، وأنه رغم أن الخطية مكرهة للرب إلاَّ أن قلبه مفعم بالحب والرحمة للخطاة. ويُعلِّم الرب عن شمول التوبة الأولى كنقطة تحوُّل في نهج الحياة وأهدافها نحو الله والملكوت.

 

ونواصل في هذا العدد عرض موقف الرب من الخطاة وكيف حرَّضهم على التوبة فتغيَّروا إلى النقيض.

 

وسنواصل في العدد القادم عرض سمات التوبة الحقيقية كما بدت في النماذج التي عرضها لنا العهد الجديد].

 

الرب يكشف عن موقف الله الإيجابي الكريم إزاء الخطاة الراجعين، فيسعى إليهم ويقبلهم ويعاملهم بالرقة والعطف لتشجيعهم على الثبوت في الحياة الجديدة ”في المسيح“:

 

1 ــ زكَّا (لو 1:19ــ10):

لقد طلب زكا «أن يرى يسوع مَن هو». فلما رآه يسوع قال له: «أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك».

فالله نظر إلى مجرد نية زكا في التعرُّف عليه والسعي إليه، ولم ينتظر أن يدعوه إلى بيته؛ بل اعتبر بيت زكا بيتاً له، يمكث فيه وليس فقط أن يزوره. والرمز هنا أن التوبة كفيلة بأن يستقر الله الطيب في قلب التائب: «هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي.» (رؤ 20:3)

 

2 ــ المرأة الخاطئة (لو 36:7ــ50):

الرب يُظهر هنا حنانه فلا يقسو على الخطاة باستجواب يكشف خطيتهم، أو توبيخ يجرح مشاعرهم ويفضحهم، ولكنه إذ يـدرك عمق توبتهم وندامتهم وإحساسهم بالعار، يغمرهم بفيض حبه ورحمته وغفرانه لخطاياهم دون أن يتكلَّم كثيراً.

فالمرأة الخاطئة لم تتكلَّم، وإنما بكت وبلَّت قدمي السيد بدموعها (ندم شديد) ومسحتهما بشعر رأسها (انسحاق لا يُخْفَى) وقبَّلتهما ودهنتهما بالطيب (حب غامر). وقد أدرك الرب بغير كلام مدى محبتها لشخصه. من  أجل ذلك «غُفِرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً...». ثم قال لها: «مغفورة لكِ خطاياك» (إعلان ما تم بالفعل ــ أي حِلاًّ من فمه). وفي النهاية قال لها: «إيمانك قد خلَّصكِ. اذهبي بسلام» (أي أن التوبة تستند إلى إيمانها بالمخلِّص. وبعد التحرُّر من الخطية يأتي السلام الموهوب من إله السلام).

والكنيسة تمجِّد توبة المرأة الخاطئة، واختارت هذا الفصل من الإنجيل لتقرأه في صلاة نصف الليل (الخدمة الثانية)، ويتمثَّل المصلِّي بالمرأة التائبة قائلاً: ”أعطني يارب ينابيع دموع كثيرة كما أعطيتَ منذ القديم للمرأة الخاطئة، واجعلني مستحقاً أن أَبل قدميك اللتين أعتقتاني من طريق الضلالة، وأُقدِّم لك طيباً فائقاً وأقتني لي عمراً نقياً بالتوبة لكي أسمع أنا ذلك الصوت الممتلئ فرحاً إن إيمانك خلَّصك“.

 

3 ــ المرأة الزانية (يو 3:8ــ11):

رغم فضيحة المرأة الزانيـة، إذ أنهــا أُمسكت في ذات الفعل، وأحـدق بها جمع كبير مِمَّن يكِنُّـون لها مشاعر الاحتقار والتشفِّي، وقد أمسكوا بحجارة ليرجموها؛ إلاَّ أن السيد أظهر لها كل رحمة وشفقة، وأعاد لها كرامتها الإنسانية التي أهدرتها الخطية والخضوع للدنس. كما كشف المسيح رياء المشتكين عليها وأنهم خطاة مثلها حتى انسحبوا من المكان مطأطئي الرؤوس. وبَقِيَ الرب يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط. وفي رقة قـال لها: «أين هم أولئك المشتكون عليكِ؟ أما دانك أحدٌ؟ فقالت: لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع: ولا أنا أدينكِ. اذهبي ولا تُخطئي أيضاً.» (يو 10:8و11)

فمحبة الله الغافرة التي يُفاجأ بها الخطاة تأسرهم فتغيِّرهم. والرب يُقدِّم لكل الرعاة والخُدَّام نموذج المحبة القاهرة للخطية مهما عظمت، والتي فيها يتحوَّل الخطاة والمنحرفون ــ حتى العتاة منهم ــ إلى قديسين، والزناة التائبون إلى بتوليين من جديد.

 

4 ــ الابن الضال (لو 11:15ــ32):

يضيف هذا المثل الشهير ــ الحافل بالتفاصيل التي حرص الرب على ذكرها ــ جوانب أخرى عن خطوات التوبة كما جازها الابن العائد، وموقف الله من الخطاة التائبين كما تجلَّت في تصرُّفات الأب في المثل. وها نحن نتوقَّف عند عناصر ورموز المثل لنرى إلى ما تشير:

فعن الابن يقول المثل إنه عندما أدرك ضلاله: «رجع إلى نفسه» (لو 17:15)، فكانت الخطوة الأولى في التوبة هي مراجعة النفس والإقرار بتدهور الحياة. وكانت الخطوة التالية اتخاذ القرار: «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطأتُ» (لو 18:15)، والخطوة الثالثة تنفيذ القرار بحسم ودون تردُّد: «فقام وجاء إلى أبيه» (لو 20:15)، وكانت الخطوة الأخيرة الاعتراف بالخطأ: «أخطأتُ إلى السماء وقدَّامك، ولستُ مُستحقاً بعد أن أُدعى لك ابناً.» (لو 21:15)

 

أما عن ردِّ الفعل المقابل للأب ــ الذي يُعبِّر عن موقف الله من الخطاة الراجعين بعد الغياب ــ فيشير المثل إلى انتظار الأب عودة ابنه: «إذ كان لم يَزَلْ بعيداً» (لو 20:15) مسانداً فكرة التوبة. ويواصل المثل فيقول: «رآه أبوه» أي أدرك نيته؛ «فتحنَّن»، ولم يستعد للعقاب والمؤاخذة، بل «ركض» أي أسرع إليه قبل أن يتلقَّفه عدو الخير ليثنيه عن عزمه، «ووقع على عنقه» مُرحِّباً سعيداً لا جامداً غاضباً لكي يزيل حرجه، «وقبَّله» رغم هيئته الزرية ــ أي قَبـِلَه كما هو ــ ولكن عامله كابن عائد رغم أنه أهانه وهجره بإرادته.

 

وإذ دعا لحفلٍ بهذه المناسبة السعيدة، «قال الأب لعبيده: أخْرِجوا الحُلَّة الأولى وألبسوه»، فالتوبة تطرح الماضي كأنه لم يكن وتكسو التائب ثوب البر من جديد؛ «واجعلوا خاتماً في يده»، فالخاطئ العائد مهما طالت غربته يظل ابناً ووارثاً وهذا الخاتم هو علامة البنوَّة؛ «وحذاء في رجليه» (لو 22:15)، فلجوء التائب إلى حضن الله بعد الضلال يكفل له الرعاية والحماية الإلهية التي يرمز إليها لبس الحذاء (ولن يحتاج فيما بعد إلاَّ إلى غسل رجليه ــ يو 10:13)؛ «وقدِّموا العجل المُسمَّن واذبحوه»، هنا يُعبِّر الرب عن فرحه ورضاه بفيض البركة وإعادة الخاطئ إلى المائدة المقدسة؛ «فنأكل ونفرح» (لو 23:15)، لأنه «هكذا يكون فرح في السماء (قدَّام ملائكة الله) بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة.» (لو 7:15و10)

 

ولكن، لماذا كل هذا الفرح بعودة الخاطئ؟ ها هو الرب يُقدِّم حججه:

 

( أ ) لأن الخاطئ التائب في نظر الله يكون كميت قد عاد إلى الحياة، وكضال اهتدى بعد التيه (لو 24:15و32)، «تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يَحْيَوْن.» (يو 25:5)

هذا الاهتمام بعودة الضال شبيه بمحبة الأب للابن العليل المحتاج للرعاية أكثر من سائر إخوته الأصحاء الذين يحبهم الأب بالتأكيد، ولكن لأنهم ثابتون في الطريق فلا يحتاجون إلى إنقاذ من الهلاك: «يا بُنيَّ أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك» (لو 31:15). فهم مستمتعون بــالوجود مع أبيهم ولم يتعرَّضوا لهـذه الغربـة والمذلـة التي يتعرَّض لها الخطاة الشاردون الذيـن يخدعهم عدو كل خير.

 

(ب) ثم يُقدِّم الرب هذا المثل الآخر: «أيُّ إنسان منكم له مئة خروف، وأضاع واحداً منها، أَلاَ يترك التسعة والتسعين في البرية، ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟ وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: افرحوا معي.» (مت 12:18و13، لو 3:15ــ7)

 

(ج) ثم يورد هذا المثل الثالث: «أو أيَّة امرأة لها عشرة دراهم. إن أضاعت درهماً واحداً، ألا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده؟ وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي...» (لو 8:15ــ10)

في ذات الوقت فإن الله يدين غير التائبين:

 

فيذكر البشير متى  أن الرب «ابتدأ يُوبِّخ المدن التي صُنعت فيها أكثر قوَّاته لأنها لم تَتُب»، وصبَّ الويلات على كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم، منبئاً أن صور وصيدا وحتى سدوم ستكون لها حالة أكثر احتمالاً يوم الدين مما لهذه البلاد (مت 20:11ــ24). وفي إنجيل القديس لوقا يُحذِّر الرب كل الغافلين: «إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون.» (لو 3:13و5)

 

وإذا كان الله قد قَبـِلَ العشار التائب الشاعر بالخزي بسبب الخطية ولم يجد غير كلمات قليلة يطلب بها الغفران، فإنه رفض صلاة الفرِّيسي المعتدّ ببره الشخصي وشعوره بعدم الحاجة إلى الله: «أقول لكم: إن هذا (العشار) نزل إلى بيته مبرَّراً دون ذاك (الفرِّيسي).» (لو 14:18)

ولكن الله لا يتصيَّد الخطاة في خطيتهم ليُعاقبهم «لكنه يتأنَّى علينا، وهو لا يشاء أن يَهْلِك أُناسٌ، بل أن يُقْبـِل الجميع إلى التوبة» (2بط 9:3)، «هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار.» (مت 14:18)

 

كما أن الرب طويل الأناة مستعد أن يصبر على المتهاونين مترجياً توبتهم. ففي شجرة التين يقبل السيد كلام الكرَّام عن الشجرة غير المثمرة: «يا سيد، اتركها هذه السنة أيضاً، حتى أنقب حولها وأضع زبلاً (الجهاد ضد الخطية). فإن صنعت ثمراً (يكون خيراً وبركة)، وإلاَّ ففيما بعد تقطعها.» (لو 6:13ــ9)

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

 

GetImage.ashx.png

 

Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:46