|
|
دراسة إنجيلية: تعاليم المسيح عن التوبة ــ 3 ــ
[ تناولنا في المقال الأول (عدد فبراير 2002، ص 30)، مفهوم التوبة ومرادفاتها في العهد الجديد، ودعوة المسيح إلى التوبة كمدخل للحياة الجديدة، وأنه رغم أن الخطية مكرهة للرب إلاَّ أن قلبه مفعم بالحب والرحمة للخطاة. ويُعلِّم الرب عن شمول التوبة الأولى كنقطة تحوُّل في نهج الحياة وأهدافها نحو الله والملكوت.
وعرضنا في المقال الثاني (عدد مارس 2002، ص 29) موقف الرب من الخطاة وكيف حرَّضهم على التوبة فتغيَّروا إلى النقيض. وسنواصل في هذا العدد عرض سمات التوبة الحقيقية كما بدت في النماذج التي عرضها لنا العهد الجديد].
من سمات التوبة الحقيقية:
1. يميِّز التائب الحقيقي شعوره الصادق بخطيئته (أي أنه ليس فقط يتظاهر بأنه خاطئ)، وأمامنا هنا نموذج العشار الذي في انسحاقه وإحساسه بالخزي «وقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 13:18)، ورغم تدهور حالته فإنه يتعشَّم في رحمة الله الواسعة التي يشمل بها الخطاة ليقتادهم إلى التوبة ويقبل الراجعين ولا يرفضهم. فالرب لم يأتِ ليدعو الأبرار (مت 12:9، مر 17:2، لو 32:5) أو الخطاة المدَّعين (الأبرار في أعين أنفسهم)؛ وإنما المعترفين بواقعهم الخاطئ.
2. بعد نكوص الشاب الغني عن تبعية الرب بسبب محبته لأمواله، تحدَّث الرب لتلاميذه عن مصاعب دخول المتَّكلين على أموالهم إلى الملكوت. فتساءل التلاميذ فيما بينهم قائلين: «فمَن يستطيع أن يخلص»؟ فجاء القول الفصل من الرب: «عند الناس غير مستطاع، ولكن ليس عند الله، لأن كل شيء مستطاع عند الله.» (مر 26:10و27)
فنحن لا نستطيع أن نتوب من ذواتنا، ولكننا نحتاج إلى عمل نعمة الله لكي تُحرِّك مشاعرنا بالتوبة: «توِّبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي» (إر 18:31). ومن هنا فتوبة الخاطئ تبدأ بإقراره بالحاجة إلى الله.
وتشير كلمة الله إلى أن تحقيق التوبة يتم بعمل مشترك للآب والابن والروح القدس. فعن عمل الآب في التوبة يقول الرب: «لا يقدر أحدٌ أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني... فكل مَن سمع من الآب وتعلَّم يُقبل إليَّ... لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إنْ لم يُعطَ من أبي» (يو 44:6و45و65). وعن عمل الابن يقول الرب: «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 5:15)، «كل ما يعطيني الآب فإليَّ يُقبل، ومَن يُقبل إليَّ لا أُخرجه خارجاً» (يو 37:6)، «فإن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 36:8). ويشهد يوحنا المعمدان أنَّ: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 36:3). ومن جديد يؤكِّد معلِّمنا القديس يوحنا في رسالته الأولى أنَّ: «مَن له الابن فله الحياة، ومَن ليس له ابن الله فليست له الحياة.» (1يو 12:5)
فإذا كانت غاية الابن أن يُصالحنا مع الآب ويُقدِّمنا أولاداً له بالتبنِّي: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه» (يو 12:1)، فإن الطريق إلى الإيمان بالابن يمر بالآب (يو 44:6). ومن ناحية أخرى، فإنَّ غاية الروح القدس أن يعرفنا المسيح فهو الذي يعدّ قلوبنا للإيمان به: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس» (1كو 3:12)، وهو كروح الحق يُبكِّتنا على خطايانا (يو 8:16)، وينخسنا في قلوبنا (أع 37:2) فيهدينا إلى التوبة؛ وهو الذي يشهد للمسيح (يو 26:15)، ويُقدِّسنا فيه (رو 4:1)، ويُقدِّمنا بالمسيح إلى الآب كأولاد لله (رو 15:8و16).
3. هناك سلوكيات ملازِمة للتوبة الحقيقية وتنمّ عن صدقها وأصالتها:
ــ فلكي يظل التائب متمتعاً بنعمة الغفران عليه أن يغفر للمسيئين إليه وبلا حدود متمثِّلاً بالرب في اتساع قلبه إزاء الخطاة: «اغفروا يُغفر لكم» (لو 37:6). وها هو بطرس يسأل الرب: «كم مرة يُخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات.» (مت 21:18و22، لو 3:17و4)
ــ يتسق مع حياة التوبة أيضاً إصلاح الأخطاء في حق الغير. وفي هذا يقول الرب: «فإن قدَّمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكَّرت أنَّ لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعالَ وقدِّم قربانك.» (مت 24:5)
ــ كما يكشف صدق التوبة التخلُّص من ثمار الخطية. فاستبقاء مكاسب الخطية بعد إعلان التوبة هو رياء وتزييف للتوبة وطعن في صدقها. وقد أكَّد أصالة توبة زكا وتبعيته للرب إعلانُه: «ها أنا يا رب أُعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيتُ بأحد أردّ أربعة أضعاف» (لو 8:19)، فسمع من الرب البُشرى السارة: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت.» (لو 9:19)
ــ نضيف أن التائب الحقيقي لا يتحرَّج من الاعتراف بخطيئته أمام الكنيسة والناس، لا يُرائي ولا يُبرِّر نفسه بــل يسعى للتخلُّص من خطيئته وفضحها، وهكذا يتحرر منها: «مَن يكتم خطاياه لا ينجح، ومَن يُقر بها ويتركها يُرحم» (أم 13:28). ورسول الأمم العظيم القديس بولس لا يخفي ماضيه فيقول: «أنا الذي كنتُ قبلاً مُجدِّفاً ومُضطهِداً ومُفترياً. ولكنني رُحمتُ، لأني فعلتُ بجهل في عدم إيمان... أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليُخلِّص الخطاة الذين أولهم أنا» (1تي 13:1و15)، والذي فَتَح الرب عينيه يعترف: «أني كنتُ أعمى والآن أُبصر.» (يو 25:9)
ما بعد التوبــة:
يكشف نوع الحياة التالية لبدء التوبة الحقيقية عن صدقها وحيويتها. فالتائب الحقيقي يسلك في جـدَّة الحياة (رو 4:6)، وهـو نفسه يـدرك التغيير الذي طـرأ على توجهاتـه وسلوكـه وأهدافه، كما يلمسه مَن حوله، وفي سمعه صوت الرب: «ها أنت قد برئتَ فلا تُخطئ أيضاً» (يو 14:5). وهو لا يتحفظ في إعلان تبعيته للمسيح والجهر بعمل نعمة الله والتبشير بالمخلِّص أمام الآخرين: «اذهب إلى بيتك وإلى أهلك، وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك» (مر 19:5، لو 39:8). فالسامرية تركت جرتها ومضت إلى مدينتها تهتف: «هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح» (يو 29:4). والنتيجة أنْ: «آمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة...» (يو 39:4)
وعلى العكس من ذلك، فإن التظاهر بالتوبة مع استبقاء الخطايا في أركان القلب المظلمة، والاتجاه إلى التديُّن الشكلي السهل والعَرَج بين الفرقتين، يعني أن النفس تتفادى المواجهة الصحيحة، وتتهرَّب من النور ولا تزال تستعذب السير في الظلمة، وترتضي حياة الأَسر الذليلة في يد الشيطان.
الإيمان والتوبــة:
عندما بدأ الرب دعوته للتوبة بيَّن أنها الخطوة الأولى في الإيمان به: «توبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 15:1). وفي ختام دعوته قبل صعوده، أعلن القانون الإلهي: «مَن آمن واعتمد خَلَصَ، ومَن لم يؤمن يُدَنْ.» (مر 16:16)
وواضح أن إعلان الإيمان بـالمسيح مخلِّصاً وحيداً (ويقترن بـه التعهُّد بالتوبة عـن حياة الخطية)، هـو خطوة حتمية قبل أن تسمح الكنيسة للشخص البالغ الراشد أن ينال نعمة المعمودية والميلاد الثاني بالروح القدس، الذي يهب الثبوت في المسيح واستمرار التوبة وممارسة القداسة.
فالإيمان ضرورة للخلاص. والذين اعتمدوا في طفولتهم ليسوا مستثنين من شرط الإيمان؛ بل هم ملتزمون عند نضجهم أن يُعلنوا ويختبروا حياة الإيمان لكي يتمتعوا بالخلاص، ويضرموا عمل الروح القدس الذي نالوه في المعمودية، ويمارسوا التوبة وحياة القداسة. وتكون مهمة الوالدين أو الإشبين أو الكنيسة ــ من خلال التعليم والقدوة ــ أن يُعَدَّ الطفل المعمَّد خلال سنيِّه الأولى لقبول الإيمان عندما يبلغ الحلم. وبغير ذلك نكون كمَن يستبعد دور الإيمان في الخلاص.
ويشير التاريخ الكنسي (كما يذكر كتاب الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة للعلاَّمة يوحنا بن زكريا المعروف بابن سبّاع في القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر) إلى أنه كان من الممارسات المتبعة حتى ذلك الزمان أن يذهب الأبوان بابنهما (أو ابنتهما) الذي بلغ الحلم (حوالي عمر 13 أو 14 سنة) إلى الكنيسة ليعلن بنفسه إيمانه بالمسيح كمخلِّص، جاحداً الشيطان (وهو ما أدته أُمه أو إشبينه عنه يوم معموديته وهو طفل).
فالإيمان شخصي وليس نيابياً.
ولا شكّ أن هذا الاحتفال الكنسي بإعلان الإيمان (والتوبة) يضع الشاب (أو الشابة) أمام مسئوليته عن مصيره، ويستثير جدِّيته والتزامه ليحفظ نفسه إلى حياة أبدية. وهكذا يُتمم خلاصه بخوف ورعدة (في 12:2)، رافضاً الخطية ومُصحِّحاً مسيرته كل الأيام بالتوبة الدائمة، ونظن أن توقُّف ممارسته كان خسارة فادحة.
وإذا كنا نفتقد هذا الاحتفال الآن ونتمنى عودته، فإنه يُمارَس بالفعل حالياً في بعض الكنائس الغربية، وعادةً يسبقه منهج تعليمي لعدة أسابيع بحيث يعكس إعلان الإيمان معرفة بحقائق الإيمان ومفردات العقيدة، ليكون المؤمن مؤهَّلاً لمجاوبة كل مَن يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه (انظر 1بط 15:3).
علاقة التوبة بالإيمان، إذن، علاقة عضوية كعلاقة الفرع بالأصل. ومن هنا الإلحاح على تجديد الإيمان وتفعيله. فالتوبة الأولى والمتجددة هي إعلان على فاعلية الإيمان الحي (الذي يجهر به الكثيرون بعد معموديتهم) وعلاقتها الساطعة: الحرية من الخطية: «فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 36:8)، والسير في النور: «سيروا ما دام لكم النور» (يو 35:12)، «أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.» (يو 12:8)
وربما اختبر الخاطئ التائب بعد توبتـه حياة قداسة أكثر ازدهاراً وثماراً مـن حياة مؤمـن فاتـر اكتفى بالقليل.
إن التوبة في الحقيقة هي عمل القديسين. دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:46 |
