|
|
في عيد الشهداء: قضية الاضطهاد ــ 2 ــ
تكلَّمنا في المقال السابق (عدد سبتمبر، ص 24) عن الاضطهاد الذي عانى منه المسيحيون طوال الأحقاب السالفة. ثم تحدثنا عن أشكال المواجهات المعاصرة التي تُعاني منها الكنيسة في عصرنا الحاضر، وعن حتمية ودوام المواجهة بين المؤمنين ــ أينما كانوا ــ وبين العالم من حولهم. وفي هذا العدد، سنتكلَّم عن الاعتبارات التي يجب أن نضعها في حسباننا لمواجهة العدو ومقاومته والانتصار عليه بقوة ربنا يسوع الذي خرج غالباً ولكي يغلب.
سبيلنا إلى الغلبة:
إن النفوس المنتمية إلى الرب تُدرك أنه لابد من مواجهة العدو ومقاومته. فالتهرُّب من المواجهة والرضوخ للعالم هو إنكارٌ للإيمان وبيعٌ للنفس الثمينة دون مقابل. ومن هنا فلنكن دوماً مستعدِّين لابسين سلاح الله الكامل لكي نقدر أن نثبت ضد مكائد إبليس (أف 11:6)، واضعين أمامنا الاعتبارات التالية:
1 ــ إن مفتاح الغلبة الوحيد على كل هذه الألوان من الاضطهادات وما يستجدّ منها، هو في الارتماء على الرب يسوع والتعلُّق بذراعه القوية: «مَن هو الذي يغلب العالم، إلاَّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو 5:5)؟ فهو وحده القادر أن يُعطي قوة المواجهة والصمود أمام العدو مهما كانت الواجهة التي يتخفَّى وراءها، ويمنح إمكانية القلع والقطع والبتر واحتماله مهما كان مؤلماً (مت 8:18و9، مر 43:9و45و47). وهو وحده القادر أن يكشف لنا الموت الكامن في كأس العالم المسموم مهما كان بريقه وجماله. وهو وحده القادر أن يفتح لنا أبواب الأبدية فنتعزَّى بمرآها عن كل مجد العالم الزائل (1يو 17:2).
2 ــ إن إيماننا بالمسيح الذي غلب (يو 33:16، رؤ 2:6) هو عطية الله لمغالبة كل ضُروب الألم. والكتاب يروي لنا عن: «الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برًّا، نالوا مواعيد، سدُّوا أفواه أُسـود، أطفأوا قـوة النار، نَجَـوا مـن حدِّ السيف، تَقَـوَّوا مـن ضعف، صاروا أشـداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء» (عب 33:11و34). هؤلاء ارتفعت في عيونهم قيمة الأبدية، فتصاغرت قيمة الحياة الحاضرة. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف لم يقبلوا النجاة «لكي ينالوا قيامة أفضل.» (عب 35:11)
كما أن اختبارنا اليومي لمحبة المسيح لنا يجعلنا راضين عن كل ما يختاره لأجل خلاصنا وتزكية إيماننا، آلاماً كانت أم أفراحاً، عالمين «أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله» (رو 28:8). فالمسيح راعينا الأمين يراقب كل شيء ولا بد أن مستندات الآلام التي نجوزها قد عُرضت عليه وصدَّق عليها بموافقته. ولكن عينه علينا، وهو لأمانته لا يسمح للآلام أن تتجاوز غرضها المبارك بل يجعل معها المنفذ (1كو 13:10)، كما أنه لا يجعل عصا الخطاة تستقر على نصيب الصدِّيقين (مز 3:125). وهو لن يترك بلا تأديب كل الذين اشتركوا في اضطهاد مؤمنيه، حتى وإن كانوا ــ من حيث لا يدرون ــ سبباً في تمجيدهم الأبدي.
3 ــ إن المؤمن الحقيقي يُدرك أنه ينتسب إلى ملك الملوك، الذي خرج غالباً ولكي يغلب، وهو المخلِّص الوحيد، وديَّان الأرض كلها. فهو يشعر دوماً بقوته المستندة إلى قوة إلهية. ومن هنا فلا مكان عنده لعقدة الاضطهاد أو هموم الأقليات التي تُرهق المؤمنين الشكليين.
4 ــ الإيمان الحقيقي يغلب الذات ومحبة الحياة الحاضرة بما تتضمنه من محبة العالم والمال، ويستثير التوبة، ويُحقِّق الطهارة الباطنية واستقامة القلب. وواضح أن النصرة على الخارج لن تكون مكفولة إن لم تتم النصرة على الداخل أولاً.
والمؤمن (والمؤمنة) وهو يحفظ نفسه طاهراً (1تي 22:5) يُدرك أنه مدعوٌّ لحياة القداسة، وأنَّ جسده هو هيكل للروح القدس (1كو 19:6) وليس للأوثان، وأن كل أعضائه هي للمسيح (1كو 15:6)، وأن الحرية التي كفلها له موت المسيح وقيامته هي خروج من سجن الخطية، ومن هنا فنداءات العالم الذي يركض إلى فيض الخلاعة (1بط 4:4) لا تجد صداها عنده، لأنها تنكسر عند باب قلبه بمساندة الروح. وبهذه الطهارة يُقدِّم المؤمن نفسه لله بتولاً مكرَّساً أو يتهيَّأ لزواج مقدَّس تمتد به الكنيسة. وهكذا تعمل الغريزة لحساب الحياة الأبدية لا لحساب اللذة والموت. وتصير مسئولية كل مؤمن يهاجر إلى مجتمعات تُجاهر بخطيتها أن يثبت على ما تعلَّمه (2تي 14:3)، وأن يبشِّر بالقيم المسيحية في السلوك والحب والزواج وحماية العائلة ــ كنيسته الصغيرة ــ من الفساد الذي في العالم «مُقدِّماً نفسك في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة» (تي 7:2). وهو في هذا يسلك كتلميذ لذاك الذي مات من أجله، وواثقاً في قوة برِّ المسيح الذي غلب الخطية على الصليب، والقادر وحده أن ينقذه من أن تقترب النار منه، كما أنقذ لوطاً من قبل (2بط 7:2): «يَعْلَم الرب أن يُنقذ الأتقياء من التجربة، ويحفظ الأَثـَمَة إلى يوم الدِّين مُعاقَبين، ولا سيما الذين يذهبون وراء الجسد في شهوة النجاسة.» (2بط 9:2و10)
5 ــ إننا نثق في عدالة الله وحبه لخليقته ودوام اتصاله بها. إن الملايين التي لم تعرف المسيح بعد وتوارثت عبادة آلهة غريبة هي موضوع رعاية الله، وهو يرتِّب لها مَن يُبلِّغها كلمة الخلاص في الوقت الذي عيَّنه. والكتاب يشير إلى أن «كثيرين يُدْعَوْن وقليلين يُنتخبون» (مت 16:20). ولكن عند الله خططه التي لا نعرفها. فالشيوعية عاشت سبعين سنة منعت خلالها العبادة واستخدام الكتاب المقدس، ولكنها انهارت بضربة واحدة، وسطع نور المسيح من جديد في أنحاء روسيا وغيرها من بلاد أوروبا الشرقية. كما أن قصص التحوُّل الكثيرة إلى المسيح في مجتمعات تنكره كمخلِّص لممَّا يملأ القلب يقيناً من جهة قدرة الله المعجزية على اقتحام معاقل العدو مهما تحصنت، وأنه لا حدود هناك أمام عمل الروح القدس.
6 ــ إن قوة الكنيسة هي من الأعالي وليست من البشر. والروح القدس هو الذي يكشف بين الحين والحين نواحي القصور وأسباب الضعف ويُعالجها، مستخدماً شهوده الأمناء الذين يُرسلهم في كل جيل. كما أن حضور الروح القدس في الكنيسة، عروس المسيح، هو سر نقائها، ولن تُلوِّثها خطايا بعض البشر. وسيظل رأس الكنيسة ملك الملوك ورب الأرباب هو عنوان طهارتها، وغيرته على بيته وتدخُّله لطرد المفسدين لن تتوقَّف. ومن ناحية أخرى، فإن الروح القدس سيُلهم جسد الكنيسة ــ ورأسها واحدٌ هو المسيح ــ إلى الاتجاه إلى الوحدة في الوقت المعيَّن أيضاً، وعلينا ألاَّ نفقد رجاءنا أبداً.
7 ــ يسوع المسيح هو ملكنا الأبدي الذي سيدين يوماً سرائر الناس، حيث سيُميِّز الخراف عن الجداء: لهؤلاء المجد، ولأولئك خزي الوجوه. وقتها يستدُّ كل فم تحدَّى، وتنحني كل رأس شمخت، وتتلقَّى كل النفوس التي لم تؤمن بالابن غضب الله الأبدي (يو 36:3)، ووقتها أيضاً: «يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت 43:13)، وتعلو هاماتهم أكاليل البر (2تي 8:4). لقد زرعوا يوماً بالدموع والآن يحصدون بالفرح.
حرب الاضطهاد، إذن، هي حرب محكوم فيها على العالم ورئيسه وأعوانه بالهزيمة. وهذه هي كلمات الكتاب تسندنا في جهادنا: + «ثقوا أنا قد غلبتُ العالم.» (يو 33:16) + «أما الظالم فسينال ما ظلم به، وليس محاباة.» (كو 25:3) + «إذ هو عادلٌ عند الله أن الذين يُضايقونكم يُجازيهم ضيقاً، وإيَّاكم الذين تتضايقون راحةً معنا، عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته.» (2تس 6:1و7) + «وإبليس الذي يُضلُّهم طُرح في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش والنبي الكذَّاب. وسيُعذَّبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين.» (رؤ 10:20)
وبعد، فإن بركات احتمال الاضطهاد هي وقفٌ على الشركاء الحقيقيين لآلام الرب يسـوع؛ أما المضطهَدون الأدعياء الذين يتمسَّحون بالمؤمنين ويتظاهرون بالإيمان دون أن يتكلفوا أي عناء أو يـدفعوا أي ثمن، فهم يــريدون أن يستروا اتفاقهم مـع العالم بــالمعاناة المصطنعة والكلام المزيَّـف؛ أما الذين يتحمَّلون آلاماً بسبب قبولهم للخطية وانصياعهم لها، فليس لهؤلاء مع المسيح نصيبٌ. (انتهى المقال) دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:47 |
