|
|
في سر التجسُّد:
التجسُّد والإنسان الجديد
يصف بعض المفكِّرين الإنسان بأنه مخلوق متديِّن، أي أنه يميل إلى عبادة إلهٍ ما، ويركن إلى عقيدةٍ ما ينتمي إليها فتمنحه شيئاً من الطمأنينة والاستقرار.
وهذا التطلُّع إلى الإلهيات عنصر أصيل وكياني في كل البشر على اختلاف ألوانهم. وفي أعماق الضمير ميل للخير ونفور من الشر، حتى وإن انجذب الإنسان وانخدع من شهوته (يع 14:1) ليُخطئ ضد إرادته وضد صوت ضميره.
ويُنبئنا الوحي الإلهي أن الله خلق الإنسان على صورته كشبهه (تك 26:1و27)، وأنه نفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفساً حيَّة (تك 7:2). فروح الإنسان هي من الله، وهي سر شوقه إلى القداسة والروحيات، وهي أصل تفرُّده بالعقل بين كل المخلوقات، وهي وراء تمتُّعه بالحرية وحق الاختيار، وهي ــ لأنها كالله خالدة لا تموت ــ نَبْعُ هذا اليقين بالخلود وتجاوز الزمن، وهي عماد تفرُّد الإنسان وسيادته على جميع المخلوقات «وعلى كل الأرض» (تك 26:1ــ29) حتى أنه دعا بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية (تك 19:2و20). دور الخطية:
ولا شكَّ أن الخطية شوَّهت صورة الإنسان وأفسدت كيانه، وعطَّلت مقاصد الله فيه، وأخرجته من دائرة النعمة إلى دائرة الهلاك، وفسخت وحدته مع الله ليُعاني الوحدة والغربة وخوف الموت. وبعد أن كان ابناً ووارثاً صار عبداً فاقداً لكل حقوق الميراث. محاولات قديمة:
ولكن توق الإنسان إلى الخلود واللامتناهي، وعبادة الإله، والاحتماء في الدين، للتغلُّب على محدوديته (بالموت الذي يترصَّده)، لم ينطفئ؛ بل ظل عنصراً أصيلاً في حياة الشعوب. وبينما كان الله يواصل خطته لخلاص الإنسان، واقتناء شعب له لحفظ الإيمان إلى مجيء المخلِّص في ملء الزمان، واختيار المبشِّرين به بدءاً من أخنوخ ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى ومَن بعدهم من الأنبياء؛ فإن الأُمم الأخرى ــ المخلوقة هي أيضاً على صورة الله ــ بقيت في عمق كيانها على عطشها إلى المطلق والأبدي، وسعيها الدائب نحو الخير الأسمى والحق والكمال، وعبادة الإله حتى في صورة القُوَى المخلوقة (رو 23:1). فهم يلمسون حضور الله فيما حولهم من صور الطبيعة (رو 20:1)، وتنوُّع الكائنات ومظاهر الحياة التي لا يُدركون كنهها (كما ذكر الرب في أحد أمثال الملكوت: «كأن إنساناً يُلقي البذار على الأرض، وينام ويقوم ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو، وهو لا يعلم كيف» مر 26:4و27).
والمصريون القدماء عبدوا الإله الواحد في كثير من الرموز: الشمس الواهبة الحياة والضياء، وغيرها. وصلواتهم تُنبئ عن إيمانٍ عميق بيوم للحساب وحياة بعد الموت، وهكذا شيَّدوا المعابد ومدافن الملوك وحفظوا الأجساد حتى يوم البعث.
وفي الأديان الأسيوية القديمة (الهندوسية، البوذية، الشنتو) معابد وعبادات وصلوات وأدبيات تنشُد الخير وتندِّد بالشر. وهناك دوماً تطلُّع إلى قوة غير محدودة تتجاوز قصور الإنسان الذي تنتهي حياته دوماً بالموت.
ومع العقيدة ارتبط التديُّن بممارسات وفرائض وطقوس معينة في نواحي الصلاة والصوم وغيره من ألوان النسك، وحِفظ نصوص معينة، وتلاوة طلبات وأناشيد تُسبِّح المعبود، واحتفالات بأيام خاصة وأعياد لها مناسباتها، وربما أيضاً ارتداء أزياء بذاتها والالتزام بهيئة معينة، كذلك زيارة أماكن بعينها في مناسبات محددة تثير الوجدان وتمنح راحة نفسية للكثيرين. وبمضيّ الأجيال قامت حواجز التعصُّب والاقتناع بامتلاك الحق في كل عقيدة. عن شعب الله:
داخل نطاق شعب الله في العهد القديم كان الأمر يختلف. فالناموس لم يكن هدفاً في ذاته، وإنما كان مؤدِّبهم إلى المسيح كي يتبرروا بالإيمان (غل 24:3). وكانت ذبيحة الفصح، التي تأسَّست ليلة الخروج من مصر إلى كنعان، وصارت تذكاراً وعيداً للرب (خر 14:12)، رمزاً لذبيحة الصليب التي تمت في ملء الزمان، وصنع بها الرب فداءً أبدياً، وبها بدأ عهدٌ جديد بين الله والناس. وكان الرب المسيَّا هو محور الأحداث والنبوَّات، بدءاً من موسى وحتى المعمدان.
وضمن شعب الله كان البعض في انتظار المسيَّا متوقِّعين تعزية إسرائيل (مثل زكريا الكاهن وسمعان الشيخ وحنَّة النبية)، فلما جاء إلى أرضنا آمنوا به وتبعوه، بينما ارتبك البعض الآخر في ممارسات العبادة الشكلية والفرائض الجسدية المستقلة عن الله، وضاع منهم هدف الملكوت وانحصروا في مجرد الغسلات والتطهيرات والتوجُّس مما هو نجس (عب 10:9). وقادة الشعب من الكتبة والفرِّيسيين صار لهم الدين حرفة، فاحتموا به مكتسين بمظاهر التقوى، بينما هم مشحونون رياءً وإثماً (مت 28:23). وبينما اهتموا بتعشير النعنع والشبث والسذَّاب والكمون، تركوا ”أثقل الناموس“: الحق والرحمة والإيمان ومحبة الله (مت 23:23، لو 42:11). ومن هنا نعتهم الرب بالجهل والغباء (مت 17:23و19)، وأنهم عميان قادة عميان (مت 14:15؛ 16:23و17و19و24و26). عن غير المؤمنين:
والكتبة والفرِّيسيون في موقفهم هذا لم يختلفوا عن موقف غير المؤمنين ــ قبل المسيح وبعده ــ الذين يرون في مجرد تتميم فرائض العقيدة غاية المُنى فيُداخلهم الاطمئنان والإحساس بالرضا عن النفس.
المشكلة أن هذا الأداء الآلي للفرائض كهدف في ذاته لا يستطيع أن يُغيِّر النفس إلى الأفضل، ولا التخلُّص من حياة الخطية، وحتى من خطايا بعينها (رو 24:1؛ 26ــ33)؛ وإنما تسير الممارسات جنباً إلى جنب مع حياة الخطية (حتى وإن لم يعترف الشخص أنه خاطئ)، ويصبح التديُّن بهذه الصورة اعتذاراً يومياً عن الحياة الخاطئة المستمرة، والتي لا يمكن التخلُّص منها بالجهد البشري لأنها جزء أصيل من حياة الإنسان الطبيعي. ولا يمكن للذات أن تُحارب نفسها، ولكن الطبيعي أن تحمي نفسها. وهي ربما تتدين (بتتميم الفرائض شكلياً)، لأنها تحسب أنها بذلك تتفادى الدينونة.
والنتيجة أن هذا التديُّن الذاتي ينتهي لحساب الذات فتتضخم أكثر، وتشعر مع كل يوم أنها (على الأقل) أفضل من غيرها، وأنها بلا لوم، وأنها بأعمالها تستحق المصير الأفضل. التجسُّد والحياة الجديدة:
يمكن الآن أن نسأل: ماذا صنع التجسُّد في هذا السلوك العبثي الذي لم يعرف الإنسان (غير المؤمن) سواه حتى جاء ابن الإنسان! ذلك أن بقاء الإنسان بنفس حالته (الخاطئة) مهما كان مستوى أعماله لن يُمتِّعه بالغفران ولن يُمكِّنه من أن يصير باراً، وسوف ينتهي به الأمر حتماً إلى الموت الأبدي ”وبدون إيمان لا يمكن إرضاء الله“ (عب 6:11)؟
التجسُّد عالج مشكلة انفصال الإنسان عن الله بالخطية، وإخفاقه بذاته في العودة إلى الله. فبتجسُّد الابن أمكن للإنسان أن يصير ابناً لله بالتبنِّي (غل 5:4). وحتى قبل أن يوجد آدم كان المسيح هو النموذج للإنسان الجديد، وهو الوسيلة لتحقيق غرض الله: «اختارنا فيه (أي المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرَّة مشيئته... الذي فيه لنا الفداء بدمه... الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً، مُعيَّنين سابقاً... لنكون لمدح مجده... الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس» (أف 4:1ــ13)، لأن: «الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين.» (رو 29:8)
وبينما تكفَّل المسيح، من ناحية، بخلاص الإنسان عندما حَمَل خطايانا في جسده وسمَّرها بالصليب (كو 14:2)؛ فقد تولَّى، من ناحية أخرى، إعلان الإنسان الجديد الذي على صورة الله، فأخذ الذي لنا (الجسد) وأعطانا الذي له (بره الكامل):
+ «الإنسان يسوع المسيح.» (1تي 5:2) + «الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرب من السماء.» (1كو 47:15)
+ «كأنما بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت... فبالأولى كثيراً نعمة الله، والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح، قد ازدادت للكثيرين.» (رو 12:5و15)
وخلال حياته على الأرض تمثَّل الرب صفات الإنسان الجديد، يستر بها نقائص الإنسان الأول وضعفه: فمقابل الكبرياء قدَّم الرب نفسه: ”الوديع والمتواضع القلب“ (مت 29:11)؛ ومقابل العصيان الذي جعل الكثيرين خطاة، أطاع حتى الموت، موت الصليب (في 8:2)، ليصير الكثيرون أبراراً (رو 19:5)؛ ومقابل ميل الإنسان لمحبة نفسه وعداوة الآخر، قدَّم الرب محبته للكل حتى للأعداء والصالبين (لو 34:23)؛ ومقابل ضعف الإنسان ووقوعه في أَسْر إبليس، جاء ليهبه حريته المسلوبة (لو 18:4ــ21)؛ ومقابل التهالك على مجد العالم وأمواله، عاش الرب متجرِّداً ليس له أين يسند رأسه (مت 20:8)، وكما أوصى تلاميذه فلم يحمل هو كيساً ولا مزوداً (مت 27:17، لو 4:10).
كي نكون مثله:
ولكن الرب لم يتركنا لأنفسنا نسعى بجهدنا محاولين أن نكون مثله. فمن أين لنا قوة التغيير التي تضعنا على طريق الاتحاد بالمسيح؟
هكذا دبر الله ولادتنا الجديدة من فوق بالماء والروح والمكفولة بدم الصليب (يو 5:3و7، رو 4:6)، وبالإيمان نقتني الطبيعة الجديدة المنحازة للقداسة، وبمسحة الميرون تتقدَّس الأعضاء وتنتسب إلى المسيح (1كو 15:6)، ويصير الجسد هيكلاً للروح القدس (1كو 19:6) والنفس عذراء عفيفة للمسيح (2كو 2:11).
وبالتوبة المستندة إلى عمل الابن وموته وقيامته ننال الغفران، وبالجسد والدم نثبت في المسيح، ويصبح تغيير الإنسان عمل كل يوم. ولكن هذا لن يكون عملنا، وإنما عمل الروح القدس فينا: «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 10:2). ومن هنا فلا نستطيع أن ننسب أعمالنا إلينا أو أن نفتخر بها أو نرضى بها عن أنفسنا، بل فقط نفرح أن الروح يرتاح فينا، وأن الله يستخدمنا لمجده. وسيظل المؤمن يسعى على الأرض إلى كمال القداسة (مت 48:5). ولكن هذا سيكمل في الأبدية عندما «يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم.» (مت 43:13)
إنسان العهد الجديد:
إن ما تمتَّع به إنسان العهد الجديد بتجسُّد المسيح من امتيازات يفوق بما لا يُقاس ما أُتيح للإنسان قبل تجسُّد ابن الله، حتى أن الرب غَبَط تلاميذه على النعمة التي نالوها قائلاً: «طوبى لعيونكم لأنها تُبصر، ولآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم: إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يَرَوْا ما أنتم تَرَوْن ولم يَرَوْا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا» (مت 16:13و17). وبينما مات آباء العهد القديم أجمعون «وهم لم ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدَّقوها وحَيَّوْها» (عب 13:11)، فنحن ــ أبناء العهد الجديد ــ عاينَّا تحقيق الموعد وتمتَّعنا بآثاره.
المسيح الفريد:
في المسيح وحده يلتقي الله والإنسان، لأنه بفدائه «نقض حائط السياج المتوسط» (أف 14:2) أي حاجز الخطية صانع العداوة، وصالَح الكل مع الله بالصليب (أف 16:2). ومكانة المسيح الفريدة في علاقة الله بالإنسان تكشفها كلماته: «ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن، ومَن أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 27:11)، «ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي» (يو 6:14)، وهي ما عبَّر القديس بطرس عنها في خطابه إلى رؤساء الكهنة بعد معجزة شفاء الأعرج: «وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطِيَ بين الناس به ينبغي أن نخلُص.» (أع 12:4)
المسيح أبطل بجسده (أي بتجسُّده وصلبه وموته وقيامته) ناموس الوصايا في فرائض كي يصير الكل فيه: «إنساناً واحداً جديداً.» (أف 15:2)
في عالم اليوم ملايين لم يؤمنوا بعد بالمسيح ويعتقدون أنهم بأداء فرائضهم ينالون الغفران ويرثون السعادة الأبدية. أما الذين دُعِيَ عليهم اسم المسيح، فهو وحده رجاؤهم الأبدي، وهو صانع خلاصهم وسلامهم؛ وهم لا يتفادون مواجهته وتسليم حياتهم له محتمين في الممارسات الآلية كما يفعل المؤمنون الشكليون الممسكون بالعصا من منتصفها، الذين علاقتهم بالعالم وانصياعهم لمبادئه تسير بلا عائق، إذ يتهرَّبون من التوبة والتوجُّه الحقيقي نحو المسيح المخلِّص بالتديُّن المصطنع لمقاومة الروح المُبكِّت، وهم في هذا لا يختلفون عن الذين لا يؤمنون بالمسيح بصورة صريحة ويؤمنون أن خلاصهم مكفولٌ بأعمال برِّهم وفي قرارة نفوسهم إحساس بالرضا وبأفضليتهم عن غيرهم.
شكراً لله المُحِب، أن المسيح جاء وخلَّصنا وأنعم علينا ببنوَّة الله، فليس فينا برٌّ شخصي وإنما هو بر المسيح. كما أن أعمال إيماننا هي أعمال الروح القدس فينا، ونمونا إلى الأفضل يتم بثبات المسيح فينا وثبوتنا نحن فيه، ودخول الملكوت الأبدي ليس باستحقاقنا وإنما هو هبة الله الغنية لكل مَن يؤمن.
وإذا كانت نعمة الله قد شملتنا، فانتسبنا إلى المسيح دون فضل منا، فعلينا ألاَّ نتعالى على غيرنا، وأن نحب الجميع كإخوة لنا ضمن خليقة الله، مُصلِّين بكل طلبة أن تتحقق إرادة الله: «... أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون.» (1تي 4:2) دكتور جميل نجيب سليمان
|
| Last Updated on Saturday, 14 May 2011 17:48 |
