Home المقالات أعظم من يونان
Print

مبادئ مسيحية:

قضية الغفران

بين عمل الله وعمل الإنسان

l «اغفروا يُغفر لكم.» (لو 37:6)

من أجمل الكلمات التي فاه بها رب المجد هذه العبارة: «مغفورة لك خطاياك» (مت 2:9، مر 5:2، لو 20:5؛ 48:7)، يقولها للخاطئ التائب فيُطلقه من أَسْر إبليس ويُحرره من سجن الخطية الأليم. وتظل هذه العبارة فاعلة وحاضرة حتى لو انخدع المرء من جديد عائداً إلى خطيته؛ فإذا ضاق الخاطئ بحاله وتاق إلى الحرية وجاء إلى الرب تائباً (لو 20:15)، تنزل الكلمات على قلبه ندىً وسلاماً.

وحق الخاطئ التائب في الغفران كَفَلَه دم المسيح النازف على الصليب: «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب 22:9) عندما ناب عن كل الخطاة ودفع ببرِّه عنهم ثمن انكسارهم وضعفهم: «إذ محا الصَّكَّ الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًّا لنا، وقد رفعه من الوسط مُسمِّراً إيَّاه بالصليب» (كو 14:2)، «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا.» (أف 7:1)

شرط آخر للغفران:

وإذا كان من أولى شروط التمتُّع بالغفران توبة الخاطئ أي رجوعه عن خطيته (مر 12:4)، والإقرار بها (لو 18:15و21، 1يو 19:1: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم»)، والندم على بُعْده عن الله (لو 13:18)، والعودة من جديد إلى محبته (لو 47:7)؛ فإن الرب قد كشف عن شرط هام آخر كما يبدو في الآيات المختارة التالية:

«واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا... فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم.» (مت 12:6و14و15)

+ «ومتى وقفتم تُصلُّون، فاغفروا إن كان لكم على أحد شيء، لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم. وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذي في السموات أيضاً زلاتكم.» (مر 25:11و26)

«ولا تدينوا فلا تُدانوا. لا تقضوا على أحد فلا يُقضَى عليكم. اغفروا يُغفر لكم.» (لو 37:6)

«مُحتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً إن كان لأحدٍ على أحدٍ شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً.» (كو 13:3)

والكلام واضح وقاطع وهو أن تمتُّع الخاطئ التائب بحق الغفران وعدم وقوعه تحت الدينونة مشروط بأن يغفر ويسامح. كما أن غفران الله لنا يلزمنا ــ من ناحية أخرى ــ بالغفران للآخرين.

وردًّا على تساؤل بطرس عن كم مرة يُخطئ إليه أخوه وهو يغفر له، هل إلى سبع مرات؟ قال الرب يسوع: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات» (مت 21:18و22)، أي أن الالتزام بالغفران للآخرين غير مشروط بعدد أو حد أقصى.

بل إن الرب ــ ليؤكِّد على وجوب التزامنا بالغفران للآخرين لنظل نحن أيضاً متمتعين بنعمة المغفرة ــ واصل حديثه لبطرس وذكر مَثَل العبد الشرير (مت 23:18ــ35) الذي بدأه بقوله: «لذلك يُشبه ملكوت السموات إنساناً مَلِكاً أراد أن يُحاسب عبيده. فلما ابتدأ في المحاسبة قُدِّم إليه واحدٌ مديون بعشرة آلاف وزنة. وإذ لم يكن له ما يُوفي أمر سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له، ويُوفَى الدَّيْن. فخر العبد وسجد له قائلاً: يا سيد، تمهَّل عليَّ فأُوفيك الجميع. فتحنَّن سيد ذلك العبد وأطلقه، وترك له الدَّيْن» (مت 23:18ــ27). ولكن هذا العبد لم يصنع المِثْل بـِمَنْ كان مديوناً له بمائة دينار فقط ولم ينصت إلى توسلاته وألقاه في السجن، ولما علم السيد غضب على عبده الذي لم يرحم رفيقه وسلَّمه إلى المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان عليه. وختم الرب المَثَل قائلاً: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته.» (مت 35:18)

نحن، إذن، أمام منطوق إلهي واجب الطاعة، هو أن نغفر لمن يُسيء إلينا، وليس أمامنا خيار آخر، ذلك أنه إن لم نغفر لن يُغفر لنا.

نعم، يجب أن نغفر:

1 ــ نحن يجب أن نغفر متمثِّلين بسيدنا ومخلِّصنا الصالح الذي طلب الغفران لصالبيه وهو في ذروة الألم قائلاً: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 34:23). فهو ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته (1بط 21:2)، وطلب أن نتعلم منه فنجد راحة لنفوسنا (مت 29:11).

2 ــ ولأننا ندرك أن كلنا خطاة تحت الضعف والآلام، وكلنا نحتاج إلى مغفرة؛ فتقسِّي القلب وتعاليه على الغفران للآخرين يعني جهل الإنسان بحقيقته وأنه يتخبَّط في الظلام، بينما الغفران للمسيئين يعني الحياة في النور.

3 ــ نحن مُعرَّضون أن نخطئ في حق الآخرين، فإعراضنا عمَّن أخطأوا إلينا ورفضنا مسامحتهم قد يُسقطهم هم أيضاً في فخ عدم الغفران وقساوة القلب؛ وهكذا تتواصل حلقات الكراهية وتتوارى وصية المحبة.

4 ــ ولأن هناك وصية عامة تُنادي: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء» (مت 12:7)، «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا» (لو 31:6). فإذا بدأنا نحن بالغفران، يَسَّرْنا على الآخرين أن يغفروا لنا.

5 ــ وأخيراً، لأن حقنا كتائبين في أن يغفر الله لنا ــ رغم أنه مكفول بالدم الإلهي الكريم ــ مشروطٌ، كما سبق ذِكره، باستعدادنا الدائم للغفران للآخرين. فإذا تمنَّعنا عن أن نغفر لهم كأنهم لا يستحقون عفونا سقطنا تحت الحُكْم: «لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاَّتكم.» (مت 15:6)

عقبات أمام قدرة المؤمن على الغفران:

رغم القول الإلهي الصريح، وخطر حرماننا من الغفران، فإن البعض منا يعجز عن أن يغفر لِمَن أساء إليه أو يصعب عليه الأمر جداً. فكيف بلغ إلى هذه الحال؟

1 ــ إن الكبرياء هي العقبة الرئيسية أمام الغفران. فهي تُعظِّم حجم الخطأ الذي أصاب الشخص، وبالتالي الشعور بالإهانة وجرح الكرامة. ومهما كان حجم الاعتذار فالنفس تشعر أنها لم تنل الترضية الكافية. وربما سعت إلى إذلال الآخر تحت غطاء أنها تقصد ألاَّ يكرر الخطأ مرة أخرى، وهي قسوة لا تليق بالمؤمنين.

وفي هذا الصدد ينبغي أن تسمو طاعتنا لكلمة الله، التي تأمرنا بالغفران، فوق أي مشاعر ذاتية. ونضيف أن امتناعنا عن الغفران للمعتذر الذي ينتظر عفونا يُسيء إلى أسلوب تديُّننا وعدم تسليم الحياة للمسيح. فالإيمان الحي يُعلن عن ذاته بالاستعداد القلبي للغفران، حتى من قبل أن يتقدَّم الشخص المُسيء طالباً الغفران، كرد فعل تلقائي لمسامحة الله لنا: «وكونوا... متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح» (أف 32:4)، وتنفيذاً لوصية المحبة التي «تتأنَّى وترفق... وتحتمل كل شيء.» (1كو 4:13و7)

2 ــ كثيرون لا يُدركون أن لا طريق آخر أمام المؤمن غير أن يغفر طاعةً لوصية السيد، وليظل متمتعاً هو أيضاً بحق غفران خطاياه. وعلينا أن نضع أمام عيوننا هذه الحقيقة لكي لا نتوقف لحظة عن أن نغفر للمُسيء الذي ينشد عودة المحبة.

3 ــ بعض النفوس تغفر الإساءة ولكنها لا تنساها. ومن هنا فعند تكرار الإساءة من نفس الشخص تُستدعى خطيئته من مخزن الذاكرة السيئة، وهذا يُعسِّر على النفس القدرة على الغفران؛ رغم أن الرب قال لبطرس: «وإن أخطأ إليك (أخوك) سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً: أنا تائب، فاغفر له» (لو 4:17). فالشرط الوحيد المطلوب هنا من المخطئ هو توبته، ولكن لا يوجد حد أقصى لعدد مرات الغفران حتى ولو تعددت الأخطاء في ذات اليوم.

والحاجــة مُلحَّـة هـنـا في طلب نعمـة الله لمساعـدة النفس على أن يقترن الغفـران بــالنسيان to forgive and to forget. فالغفران لا يُقصَد منه مجرد إسقاط الإساءة مؤقتاً ــ أي غفرانها من الخارج ــ وفي نفس الوقت إبقاءها في الداخل بإيداعها أحد الأركان البعيدة في الذاكرة. الغفران الحقيقي يعني طرح الإساءة، أي إسقاطها ونسيانها، كأن لم تكن. ونحن في هذا نتمثل بإلهنا الرحيم الذي إذ يغفر خطايانا يقول: «قد محوت كغيم ذنوبك» (إش 22:44)، «لا أذكر خطاياهم وتعدِّياتهم فيما بعد» (عب 12:8). وهو وحده الذي يستطيع أن يهبنا هذه القدرة على نسيان الإساءة فلا نعود نذكرها، فقط علينا أن نطلب بإيمان من الله غافر الخطايا حتى ننال هذه الصفة الجميلة التي هي من سمات القديسين.

وماذا عن الطرف الآخر؟

لكن ماذا عن الطرف الذي أساء ويطلب العفو؟ وماذا قال الرب عمَّا يجب عليه؟ وإذا كان التزام المؤمن أن يغفر له، فما هو التزام المُسيء؟

في هذا يقول الرب: «إن أخطأ إليك (أخوك) فوبِّخه، وإن تاب فاغفر له» (لو 3:17). أي أن التزام المُسيء يتضمن أن يخضع للتوبيخ والعتاب (مت 15:18) كي يجتهد في ضبط نفسه ولا يعود للإساءة (خاصة لو كان في موقع الأصغر، كابن أو ابنة أو أخ أصغر أو مرءوس)، وأن يأتي تائباً أي متأسفاً شاعراً بالخطأ الذي أساء به إلى الآخر، ويُعبِّر عن ذلك بالاعتذار الصريح لمن أساء إليه وسبَّب ألمه، فلا يبقى أمام المؤمن المستعد أصلاً للغفران والعفو غير أن يقبله دون شروط ويفتح أمامه باب المصالحة بكل رفق واتساع قلب، فقد زال العائق الذي أهان المحبة وأحزنها.

عقبات أمام قدرة المخطئ على الاعتذار:

الأمر هنا ليس سهلاً أيضاً أمام مَن أساء، للشعور بخطئه واستعداده لتحمُّل نتائج تصرُّفه، وامتلاكه الشجاعة للاعتذار وترضية مَن أخطأ في حقِّه.

والعقبات أمام اعتذار المخطئ هي هي العقبات أمام توبة الخاطئ. فالذين يُمارسون التوبة ويلتزمون بها هم وحدهم الذين يملكون شجاعة الاعتذار لمن أساءوا إليهم. والعكس أيضاً صحيح.

وأُولى العقبات، والتي تنبع منها سائر العقبات والأخطاء، هي الكبرياء التي تجعل الذات فوق الحق. فتأخذ المخطئ العزَّة بالإثم ويتنكر للحق فيتعالى على الاعتراف بالخطأ مبرِّراً نفسه ومتمسِّكاً بموقفه (رغم أنه في قرارة نفسه يعرف أنه المخطئ، ولكنه يُكابر ويراوغ ويقمع الشعور بالذنب)، وهو في سبيل الدفاع عن نفسه قد ينزلق إلى الكذب وتحميل الطرف الآخر كل الخطأ. وحتى لو أجبرته الظروف أن يأتي معتذراً فكبرياؤه ستكشف أنه اعتذار شكلي. وربما لن يحتمل أي كلمة توبيخ أو إيلام، وقد ينسحب راجعاً إلى خصومة أشد. وهذا الموقف من المخطئ المتكبِّر هو علامة ضعف وجُبن، وهو من وحي إبليس الذي يسعى جاهداً لبقاء الخصومة ووأد المحبة من جذورها.

ولكن الله هناك مستعدٌّ أن يساعد المخطئ على التحرُّر من سجن الخصومة، ويهبه التغلُّب على مصاعب الاعتذار، إذا سأله المعونة للخروج من مأزقه بحيث يتفادى التبرير وحماية ذاته من الخضوع للحق، ويصير الاعتذار الصادق هزيمة لإبليس وإزاحة للعداء والخصومة وانتصاراً للمحبة.

وقد يسمح الله لمن يحبهم، وقد انسبقوا في الزلل، بالحصار والضيق كي يكتشفوا خطأهم ويُلزمهم بفضيلة الرجوع إلى الحق وطلب العفو مِمَّن أساءوا إليهم. وفي مَثَل الابن الضال (لو 11:15ــ32)، فإنه اكتشف خطأه في حق أبيه عندما احتاج وتدهور حاله حتى كاد يهلك جوعاً، وكان هذا تدبير الإله المُحِب لحثه على التوبة والعودة إلى المحبة الأولى.

ولا شكَّ أن الاعتذار بكرامة وشجاعة يُكسِب صاحبه تقدير ورضا الطرف الآخر، الذي إذ يشعر بصدق إحساسه بالخطأ، فإنه من الطبيعي أن يقبل اعتذاره، فيسقط حاجز الخصومة وتعود المحبة ربما أكثر قوة.

عن تبادُل الغفران:

يبقى في معادلة الغفران ــ ولاستكمال جوانب الصورة ــ حالة أخيرة، وهي عندما يتبادل طرفان الإساءة فكلاهما يتحمل دوره فيما آلت إليه الأمور. ربما كانت مسئولية مَن بَدَأَ الإساءة أكبر، ولكن المحصلة النهائية أن كليهما قد انزلق إلى الخطأ. فإذا كان الأول قد كسر وصية المحبة: «المحبة لا تصنع شرًّا للقريب» (رو 10:13)، فإن الثاني قد كسر وصية مقابلة الشر بالخير: «لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بشر... لا يغلبنَّك الشر بل اغلب الشر بالخير» (رو 17:12و21)، «غير مجازين عن شرٍّ بشر أو عن شتيمة بشتيمة.» (1بط 9:3)

وليس أمام الطرفين هنا لإعادة السلام وتحقيقاً لتوبة كل منهما وخضوعهما للإنجيل إلاَّ تبادُل الغفران.

ولا نظن أن الخروج من حالة الخصومة المشتركة هذه أمراً سهلاً. فكرامة كل من الطرفين تجعل البدء بالمصالحة أمراً عسيراً، وقد يعتقد كل منهما أو أي منهما أن من يبدأ بالتقارب سيكون في الموقف الأضعف ويتوقع بالتالي أن يتعالى الطرف الآخر ويتمنَّع. كما أن إبليس سيجتهد في تعميق الخلاف ويقنع كلاًّ منهما أن الآخر هو المخطئ. وربما أثار في الذاكرة خبرات قديمة سيئة تجعل عودة كل منهما للآخر أمراً بعيد المنال. وسوف يحتاج الطرفان إلى معونة النعمة لتساند جانب الخير في كل منهما وتمنح أكثرهما اتضاعاً المبادرة بطلب السلام، حتى لو كان هو الأكبر سناً أو مقاماً، فهذا يؤهِّله بالأكثر ليكون القدوة التي تملك شجاعة البدء في كسر حاجز العداوة الذي عجز الطرف الآخر عن اجتيازه. وقتها سيقتنع الطرفان أن الأمر ليس معركة يسعى كل منهما للانتصار فيها، وأنه طالما هما في الخصومة فكلاهما مهزوم وأسير العداوة. وعلى هذا فقبول كل منهما للآخر من جديد هو انتصار لكل منهما، وهو انتصار للمحبة ولكل قيمة نبيلة في الحياة الإنسانية.


لقد صارت كلمة ”آسف“ أو ”عفواً“، التي تستمد جذورها من وصية الإنجيل، عنصراً أصيلاً في الحضارة الحديثة، وهي تقال عند أبسط الأخطاء ولو كانت عن غير قصد.

ونحن المؤمنون أوْلَى أن يكون استعدادنا للاعتذار عن الإساءة، صغرت أم كبرت، بقصد أم عن غير قصد، أو الغفران للمسيء المعتذر، مهما كان حجم الخطأ؛ أمراً مفروغاً منه. فهذه هي وصية السيد.

كما أن غفراننا للآخرين هو شرطٌ لكي يغفر الله لنا.

فهل يبقى لنا بعد ذلك عذر؟!

دكتور جميل نجيب سليمان