Home المقالات أعظم من يونان
Print

مبادئ مسيحية:

الله

ضابط الكل

ملخَّص:

1.   الله ضابط الكون.

2.   الله ضابط العلاقات مع وبين البشر والحكَّام والدول.

3.   الله ضابط الجسد والنفس والروح.

4.   الله ضابط سلطان إبليس وتجارب المؤمنين.


نحن مدينون بتعبير ”ضابط الكل“ (pantokrator) لآباء مجمع نيقية (325م) المسترشدين بالروح القدس، وبالأخص للقديس أثناسيوس الرسولي الذي صكَّ هذا المصطلح.

و”ضابط الكل“ صفة تُطلق على الله الآب ــ كما في قانون الإيمان ــ ”نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل“. كما تُطلق على الله الابن ــ كما في القداس الإلهي للقديس باسيليوس ــ إذ يشير إلى الجسد المقدس والدم الكريم اللذين ”لمسيحه الضابط الكل الرب إلهنا“. وإذ ينبثق الروح القدس من الآب في الابن فهو أيضاً الروح المهيمن على الكون وكل ما فيه، إنه روح الله الذي يُحقِّق إرادته كقادر على كل شيء.

ومعنى أن الله ضابط الكل هو أنه يهيمن على الكون كله الذي أوجده بما فيه من أفلاك ومجرَّات، ونجوم وكواكب، ما في السموات وما على الأرض وما تحت الأرض، وكل المخلوقات الحية وغير الحية، أرواحاً كانت أم نباتاً أم حيواناً أم بشراً أم جماداً، سواء خلقها في لحظة من الزمان أم على مدى ملايين السنين.

وهو ضابط الكل لأنه كلِّي الوجود Omnipresent، وكلِّي القدرة Omnipotent، وكلِّي المعرفة Omniscient. وهو الألف والياء، البداية والنهاية (رؤ 8:1)، وبيده الحياة والموت.

1 ــ الله ضابط الكون:

أي أنه يمسك بالأفلاك بما فيها من مجرات وما تحويه من نجوم وكواكب تدور حولها. وهو يضبط مواقعها النسبية، وتحكُم علاقاتها القوانين التي وضعها. فلا تزيد من سرعتها ولا تُبطئ. ولا تقترب أكثر أو تتباعد. وهذا ما يضمن سلامة الكون كله حتى اليوم الأخير الذي عيَّنه، حين يأمر الله القوانين أن تتوقف ويسمح بأن تمضي السماء الأولى والأرض الأولى (رؤ 1:21)، و«تُظلِم الشمس، والقمر لا يُعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء» (مت 29:24)، و«تزول (تنحلّ) السموات (ملتهبة) بضجيج، وتنحل العناصر محترقة (تذوب)، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها» (2بط 10:3و12). ويتحقق وعد الرب بسماء جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر (2بط 13:3، رؤ 1:21).

وفيما يتعلَّق بكوكب الأرض (الذي نعيش عليه) وسائر المجموعة الشمسية التي تؤثـِّر فينا، فإن هيمنة الله تنسحب أيضاً على توالي الأيام، نهارها وليلها، وتتابُع الفصول، وحركة الرياح والأمطار والبحار والأنهار والنبات والحيوان في كل البيئات، والكائنات الدقيقة بكل أنواعها، وكل القوى والنظم والطاقات المختلفة، ما يُرَى وما لا يُرَى.

ومن هذه العلاقة الوثيقة بين الله وخلائقه على تنوُّع صنوفها، تأمَّل كاتب المزمور قائلاً:

+ «سبِّحوا الرب من السموات، سبِّحوه في الأعالي. سبِّحوه يا جميع ملائكته، سبِّحوه يا كل جنوده. سبِّحيه يا أيتها الشمس والقمر، سبِّحيه يا جميع كواكب النور. سبِّحيه يا سماء السموات ويا أيتها المياه التي فوق السموات. لتُسبِّح اسم الرب لأنه أَمَرَ فخُلِقَت. وثبَّتها إلى الدهر والأبد. وضع لها حدًّا فلن تتعدَّاه.

سبِّحي الرب من الأرض يا أيتها التنانين وكل اللُّجج. النار والبَرَد والثلج والضباب، الريح العاصفة الصانعة كلمته. الجبال وكل الآكام، الشجر المُثمر وكل الأَرز. الوحوش وكل البهائم، الدبَّابات والطيور ذوات الأجنحة. ملوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض.» (مز 1:148ــ11)

وعلى نهج هذا المزمور، تتهلَّل الكنيسة في تسبحتها (الهوس الثالث) كما تصلِّي في ليتورجيتها من أجل صعود مياه الأنهار، والزروع والعشب ونبات الحقل، ومن أجل الرياح والحرارة لنمو الأشجار وإنضاج الثمار، لأن هذه كلها خاضعة للتدبير الإلهي. فالفلاح يحرث ويزرع ويسقي، ولكن الله هو الذي يوفِّر الظروف لكي ينمو النبات ويثمر.

كل عناصر هذا الكون، إذن، تحكمها القوانين التي صنعها الله. ولكن لأنه خالقها فهو يقدر أن يوقفها عندما يشاء ــ استثناءً بصورة معجزية ــ لتحقيق إرادته في مواقف بعينها. كما في الضربات العشر تمهيداً لخروج بني إسرائيل من مصر (خر 7ــ12)، وانشقاق الأرض لتبتلع قورح وداثان وأبيرام (عد 31:16ــ33)، وتكلُّم أتان بلعام (عد 28:22)، وثبات الشمس (أي توقُّف دوران الأرض) استجابة لابتهال يشوع بن نون في حربه مع الأموريين: «يا شمس دومي على جبعون» (يش 12:10)، وإظلام الشمس وقت الصَّلْب في نصف النهار (من الظهيرة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر) (مت 45:27، مر 33:15، لو 44:23). وخلال حياته على الأرض أظهر الرب سلطانه على الطبيعة وقوانينها فسار على أمواج البحر الهائج (مت 25:14) كما انتهر الرياح والعواصف: «وقال للبحر: اسكُتْ. ابْكَمْ. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم» (مر 39:4)، وفي خوفهم قال التلاميذ: «فإنَّ الريح أيضاً والبحر يُطيعانه!» (مر 41:4، لو 25:8)

وبالصلاة وتحقيقاً لوعد الرب «لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل» (مت 20:17)، فإن جبل المقطم الذي كان يجثم على قلب القاهرة قد انتقل عنها بعيداً نحو الشرق.

وحتى في ثورات البراكين وفيضانات الأنهار وحركات الزلازل، فهذه كلها محكومة بالتدبير الإلهي وليست شرًّا كلها. وهي تعلِّم الإنسان كيف يُعظِّم فائدته ويتفادى الأخطار. كما أنه وقت المحن كالجفاف وما يتبعه من مجاعات، أو الفيضانات التي تشرِّد السكان، تتضافر جهود البشر ويتصاعد الإحساس بوحدة الإنسانية على اتساع القارات، ومبادرة قوى العالم ومؤسَّساته لتخفيف ويلات المُضَارِين وبذل الجهد في ترويض قوى الطبيعة لتكون في خدمة الإنسان.

2 ــ الله ضابط العلاقات مع وبين البشر والحُكَّام والدول:

فهو صانع العدل في السماء وعلى الأرض: «وعدله قائم إلى الأبد» (مز 3:111)، وهو «مُجري العدل والقضاء» (مز 6:103)، وهو «المُجري حُكماً للمظلومين» (مز 7:146)، ويقضي بالعدل للمساكين (إش 4:11، 1بط 23:2)، وهو صديق الضعفاء «يعضد اليتيم والأرملة» (مز 9:146)، وهو يهب النجاح للمجدِّين الأُمناء لا للكسالى المتقاعسين (مَثَل الوزنات: مت 14:25ــ30).

ومن أجل تحقيق العدل فإنه «أنزل الأعزَّاء عن الكراسي ورفع المتضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين»، كما فاهت العذراء القديسة في زيارتها لأليصابات (لو 52:1و53).

والكتاب يؤكِّد أن رؤساء العالم ليسوا مُطلقي السلطة، وأنهم يُوَلَّوْن بسماح الله ملك الملوك (1تي 15:6، رؤ 14:17؛ 16:19) «الذي له المجد والسلطان» (1بط 11:4؛ 11:5، رؤ 6:1). وباختباره يقول سليمان الملك والحكيم: «قلب الملك في يد الرب» (أم 1:21). كما إنهم تحت رقابة الله وأعمالهم خاضعة لحسابه، وسوف يُجازون بحسب أمانتهم باعتبار أن كُلاًّ منهم في الأساس هو «خادم الله للصلاح» (رو 4:13) كما أن «الرحمة والحق يحفظان الملك» (أم 28:20)، «لأنه ليس سلطان إلاَّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مُرتَّّبة مِن الله، حتى إن مَن يُقاوم السلطان يُقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة» (رو 1:13و2و8). والمقصود بالمقاومة هنا هو التمرُّد المسلَّح أو العصيان العنيف ضد الدولة والحاكم الملتزم بالقانون، وليس طبعاً حق ممثِّلي الشعب المنتخبين في الرقابة على الحكومة والمشاركة بالرأي في كل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمن القومي الذي تكفله الديموقراطية المعاصرة، وهي أن يحكم الرئيس والحكومة باسم الشعب ولحسابه، استناداً إلى الدستور والقانون الذي هو الفيصل بين كل السلطات وإليه يحتكم الجميع.

وبينما رفض الله شاول الملك لعصيانه وعزله، فقد أحب داود وشهد له قائلاً: «وجدت داود بن يسَّى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي» (أع 22:13)، وأقامه ملكاً بديلاً عن شاول. كما عزل الله نبوخذنصَّر ملك بابل المقاوم وحَكَمَ عليه أن يُطرد من بين الناس وتكون سكناه مع حيوان البَر، ويأكل العشب كالثيران، ويبتل جسده بندى السماء «حتى طال شعره مثل النسور، وأظفاره مثل الطيور»، إلى أن تاب ورجع إليه عقله؛ فبارك الله العليّ وحمد الحي إلى الأبد «الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور»، واعترف أن كل «أعماله حق وطرقه عدل. ومَن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يُذلَّه.» (دا 4)

والتاريخ يشهد أن كل طغاة الأرض من الملوك والرؤساء والزعماء الذين حكموا بالظلم وتسبَّبوا في تعذيب وقتل الأبرياء وتجاوز القوانين، والذين أثاروا الحروب لحماية أنفسهم، أو بسبب أطماعهم في ثروات غيرهم، أو لتوسيع ممالكهم على حساب جيرانهم، أو استغلالاً لضعف الآخرين؛ هؤلاء نالوا جزاء جورهم وغطرستهم، ودالت دولتهم وتحقَّق فيهم قول الرب إن «كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون» (مت 52:26)، وقول الكتاب: «أما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة» (كو 25:3). وهاك القانون الإلهي النافذ على مدى الأجيال سواء على الأفراد أو الجماعات: «يُقاوم الله المستكبرين، أما المتواضعون فيُعطيهم نعمة.» (يع 6:4، 1بط 5:5)

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان